بقلم الأستاذة: مليكة حفان
1- غزوة أحد:
بعد هزيمة قريش في معركة بدر الكبرى، وبعد أن تضرر اقتصادها نتيجة إغارة المسلمين على قوافلها التجارية الذاهبة إلى الشام، وبعد أن اهتزت مكانتها الدينية والسياسية بين العرب، لم يبق أمامها إلا طريقين:
"إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريقة الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد وعزمها القديم، وتقضي على قوات المسلمين، بحيث لا يبق لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد" (الرحيق المختوم، ص: 173)
أ – أسباب الغزوة:
وقعت غزوة أحد في 15 من شوال في العام الثالث للهجرة، وسببها أن قريشا أرادت أن تثأر ليوم بدر حيث فقدت سبعين رجلا من سادتها وزعمائها، فأخذت تستعد وتتأهب سنة كاملة لخوض حرب شاملة للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم، واستئصال دعوته من المدينة، وأول ما فعلته قريش بعد عودتها من بدر، أنها احتجزت العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سببا في معركة بدر ( وهي كما قلنا سابقا أنها كانت محملة بثروة طائلة تقدر ب 1000 بعير و50 ألف دينار ذهبي) لتستعين بها في تجهيز جيش قوي مزود بالعتاد والسلاح.
وبالفعل استطاعت قريش أن تجهز جيشا قويا يبلغ عدد مقاتليه ثلاثة آلاف مقاتل من قريش ومن والاها من كنانة وتهامة والأحابيش، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وخرجت معهم مجموعة من النساء لإثارة حماسهم وخوفهم من العار إذا فروا من ساحة المعركة. وكانت القيادة العامة للجيش لأبي سفيان بن حرب، وعهدت قيادة الميمنة لخالد بن الوليد، وقيادة الميسرة لعكرمة بن أبي جهل. (زاد المعاد، ابن القيم الجوزية، 3/192)
ب – الاستعداد والتأهب لمواجهة العدو:
لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر خروج قريش لحرب المسلمين استشار عليه السلام أصحابه في الخروج إلى المشركين لقتالهم أو البقاء في المدينة والتحصن فيها فإن دخلوا عليهم قاتلوهم على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي الذي يستحسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووافقه عليه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فقام جماعة منهم ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج وألحوا عليه في ذلك، وقالوا يا رسول الله: اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأيهم، ودخل بيته ولبس لَأْمته (درعه) وأخذ سيفه ثم خرج على الناس، فندم الذين أشاروا عليه بالخروج، إذ كانوا سببا في حمله على خلاف رأيه، وقالوا استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ينبغي لنبي إذا لبس لَأْمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ( سيرة ابن هشام:2/65/66)، ثم أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وخوض المعركة الحاسمة مع قريش، وقد عمل صلى الله عليه وسلم على إعداد جيشه إعدادا يمكنه من مواجهة قريش وإلحاق هزيمة ساحقة بها كتلك التي لاقتها في معركة بدر الكبرى، كما عمل عليه الصلاة والسلام على وضع خطة عسكرية فريدة لخوض هذه الحرب تبرز براعته صلى الله عليه وسلم العسكرية، التي تتصف بها قيادته في الحروب، ومن أهم الاستعدادات التي اتخذها عليه السلام ما يلي:
أولا: إعداد الجيش الإسلامي إعدادا جيدا:
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة قريش في جيش يتألف من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وفارسان لا غير، وقد قسم عليه السلام جيشه إلى ثلاثة أقسام:
- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير.
- كتيبة الأوس من الأنصار وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
- كتيبة الخزرج من الأنصار وأعطى لواها الحباب بن المنذر.
وجعل على قيادة الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان على الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من صحابته صلى الله عليه وسلم، المعروفين بالبسالة والشجاعة، أما القيادة العليا للجيش فكانت له صلى الله عليه وسلم.
وقد رفض صلى الله عليه وسلم، أن يستعين بيهود الخزرج الذين خرجوا مع عبد الله بن أبي بن سلول لقتال المشركين وردعهم عن المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: "مروهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بأهل الكفر على أهل الشرك" كما أنه صلى الله عليه وسلم، رد مجموعة من الفتيان الذين رغبوا في حرب المشركين والانضمام إلى جيش المسلمين لصغر سنهم، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري وغيرهم من الفتيان، وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج لأنهما كانا قويين يحسنان الرماية، وقد بلغا 15 سنة.
ثانيا: خطة المسلمين لخوض المعركة:
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة عسكرية محكمة لجيشه لخوض غمار معركة أحد، فعسكر بجيشه في موقع جيد يمكنه من التحكم في سير المعركة فجعله مستقبل المدينة، وجعل ظهره إلى جبل أحد، فصار جيش العدو فاصلا بين المسلمين وبين المدينة، ثم اختار عليه السلام، خمسين رجلا من خير الرماة بقيادة عبد الله بن جبير وجعلهم خلف جيش المسلمين على هضبة عالية مشرفة على أرض المعركة ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، ثم أصدر أوامره العسكرية الشديدة فقال لقائدهم : انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتون من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك" (ابن هشام: 2/65-66) ثم قال للرماة:"إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم"(رواه البخاري: في الجهاد:1/426).
وإذا تأملنا الكيفية التي أعد الرسول صلى الله عليه وسم بها جيش المسلمين وكيف نظم صفوفه، وكيف اختار الموقع المناسب لجيشه في ساحة المعركة، وكيف وضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ثم أمرهم بعدم مغادرة أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين، حتى يتلقوا الأوامر منه، تتضح لنا حقيقة بارزة وهي البراعة العسكرية التي كان يتصف بها صلى الله عليه وسلم "وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذه، فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره- حين يحتدم القتال- بسد الثملة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي(بجعل الرماة فوق الجبل لحماية ظهر الجيش) واختار لمعسكره موضعا مرتفعا يحتمي به- إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين – وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين" (الرحيق المختوم صفي الدين المبارك فوري: ص:180)
جـ - موقف المنافقين في المدينة:
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم لقتال المشركين – كما أسلفنا- في جيش بلغ عدده ألف مقاتل وقبل أن يصلوا إلى ميدان المعركة تمرد زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وانسحب بنحو ثلث الجيش (ثلاثمائة مقاتل ) عامتهم من شيعته وأصحابه محتجا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، ترك رأيه ( أي عدم الخروج من المدينة، وملاقاة العدو داخلها) وأطاع غيره، (سيرة ابن هشام:2/66)، والحقيقة أن هذا الانسحاب لم يكن بسبب رفض الرسول صلى الله عليه وسلم الأخذ برأيه، وإنما كان يرمي إلى إحداث "البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو وتعلو همته لرؤية هذا المنظر فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه")(الرحيق المختوم، ص:178). إلا أن تمرد المنافقين وانسحابهم بثلث الجيش لم يثن المسلمين عن مواصلة السير نحو ميدان المعركة ومواجهة العدو بسبعمائة مقاتل فقط، وفي هؤلاء المنافقين نزل قوله تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }(آل عمران167)
د- لقاء الجيشين وهزيمة المسلمين:
بدأت المعركة، والتقى الجيشان، واقتتلا قتالا شديدا وأبلى المسلمون بلاء حسان فكان النصر حليفهم، قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف، حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها، روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم (سوق) هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير، (ابن هشام، 2/77).
ولما رأى الرماة انهزام المشركين وهروبهم من ساحة المعركة، ورأوا المسلمين، يسلبون ويجمعون الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ظنوا أن المعركة قد حسم أمرها بنصر مؤزر للمسلمين فترك أغلب الرماة أماكنهم التي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومها، ونزلوا ليفوزوا بالغنائم، فأخلوا الجبل وكشفوا ظهور المسلمين، فلما رأى خالد بن الوليد خلو الجبل من الرماة وضعف المقاومة منه، انتهز الفرصة والتف حول الجبل، وباغت المسلمين من الخلف، فقتل عبد الله بن الجبير وأصحابه الذين ظلوا فوق الجبل ولم ينزلوا لأخذ الغنائم، ثم هجم على جيش المسلمين من الخلف، وعاد المشركون الهاربون إلى أرض المعركة، فحوصر المسلمون من الأمام والخلف، ودارت بينهم وبين المشركين حربا ضارية، صمد المسلمون فيها أروع صمود، ثم أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل، وكانت هذه الشائعة من أشد ما أدخل الرعب في قلوب بعض المسلمين ففروا عائدين إلى المدينة، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصابته حجارتهم وشج وجهه، وخدشت ركبتاه وجرحت شفتاه السفلى، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلقات المغفر في وجنته، وتكاثر المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم يريدون قتله فثبت الرسول صلى الله عليه وسلم، وثبت معه نفر من المؤمنين يدافعون عنه بأجسادهم وأرواحهم يقول ابن هشام عن هزيمة المشركين في هذه المعركة، ثم إن الحرب هدأت بين الطرفين وانحسر المشركون منصرفين، وقد زهوا بالنصر الذي أحرزوه، وفزع الناس لقتلاهم، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب، واليمان، وأنس بن النضر، ومصعب بن عمير وعدد كبير غيرهم. وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم لمقتل عمه تأثرا شديدا، وقد مثل به فبقر بطنه وجدع أنفه وأذناه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من القتلى في ثوب واحد ثم يقول:" أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهم قدمه في اللحد، وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا" (سيرة ابن هشام،2/98) وانتهت معركة أحد بهزيمة المسلمين، وكان سبب هذه الهزيمة بعد ذلك النصر العظيم الذي كان لهم في أول المعركة، هو مخالفة الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ عدد قتلى المسلمين في هذه المعركة، سبعين رجلا، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار، أما قتلى قريش فكانوا اثنان وعشرون قتيلا، وفي هذه الغزوة يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(آل عمران: 152- 153).
2- غزوة الأحزاب (الخندق):
كان لهزيمة المسلمين في معركة أحد أثر سيء على سمعة الدولة الإسلامية الفتية، فزالت هيبتها، وتزعزعت مكانتها بين العرب، وتجرأ عليها الأعداء داخل المدينة وخارجها:
فاليهود جاهروا بعدائهم للمسلمين وعادوا من جديد لسياسة التآمر والغدر والمكائد، بل لقد وصل بهم الأمر إلى محاولة يهود بني النضير قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجرأت قبائل الأعراب على المسلمين فحاولوا مرات عديدة الإغارة على المدينة، وتعدت جرأتهم إلى قتل بعوث الدعاة الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى القبائل العربية ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم أمر هذا الدين فقتلوا من صحابته صلى الله عليه وسلم عشرة في وقعة الرجيع، وقتلوا سبعين صحابيا من فضلاء الصحابة وقرائهم في وقعة بئر معونة (أنظر محاضرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود). وتجرأت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعاودت غزوة المدينة بعد مرور سنة على غزوة أحد، حيث خرج أبو سفيان في ألفين من مشركي مكة، ومعه خمسون فرسا، يبغي القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، في موعد كان قد ضرب للمسلمين في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة، وتسمى هذه الغزوة بغزوة السويق، ولكن أبا سفيان لم يجد الجرأة لمواجهة جيش المسلمين، فرجع بجيشه إلى مكة دون أن يلتقي الجيشان.
وهاهي القبائل العربية تتحزب وتتجند بتحريض من اليهود لغزو المدينة، فمن الجنوب جاءت قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة، ومن الشرق جاءت قبائل غطفان: بنو فزراة وبنو مرة وبنو أشجع وبنو أسد، واتجهت كل هذه الأحزاب وتحركت للقضاء على الإسلام والمسلمين.
أ - أسباب المعركة:
وقعت غزوة الأحزاب (الخندق) في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وسببها أن يهود بني النضير (الذين نزلوا خيبر وجلائهم من المدينة) لما رأوا انتصار قريش يوم أحد تجرؤوا على للمسلمين من جديد وأخذوا يعدون العدة لتهيئة ضربة قاتلة للمسلمين للثأر لأنفسهم، وطمعا في العودة إلى ديارهم وأملاكهم في المدينة التي طردوا منها. فخرج عشرون رجلا من زعماء اليهود وسادات بني الضير(سلان ابن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع) إلى قريش بمكة يحرضونهم "على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤلبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان، فدعوهم فاستجابوا لهم ثم طافوا في قبائل العربي يدعوتهم إلى ذلك. فاستجاب لهم من استجاب، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة وجاء غطفان وقائدهم عيينة بن حصن وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف" (زاد المعاد: ص:3/271).
ب - الاستعداد والتأهب لمواجهة الأحزاب:
سبق وأن أوضحنا أثناء حديثنا عن معركة بدر وأحد أن للنصر في كل معركة أسباب متعددة مثل حسن الإعداد والتدريب واختيار الزمان والمكان المناسبين، وإعداد خطة محكمة للجيش لخوض غمار المعركة، وكل هذه الأمور حرص الرسول صلى الله عليه وسلم، على الأخذ بها وكانت سببا في انتصاره انتصارا عظيما في معركة بدر، وأن مخالفة هذه الأسباب كانت وراء هزيمة المسلمين في معركة أحد، وكعادته صلى الله عليه وسلم فإنه في معركة الأحزاب أيضا أخذ بمجموعة من التدابير ساعدته على مواجهة الظرف العصيب الذي كانت تواجهها المدينة المنورة عندما حاصرتها الأحزاب بجيش عرمرم يقدر بعشرة آلاف مقاتل. ومن هذه التدابير التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي.
أولا: حفر الخندق:
بعدما ترامت الأخبار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفيد أن ساسة اليهود وقاداتهم قد أفلحوا في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وأن قريشا وحلفاءها وغطفان وحلفاءها، خرجوا لقتال المسلمين، جمع الرسول عليه السلام أصحابه واستشارهم في الكيفية التي يواجهون بها الأحزاب المحزبة، والجنود المجندة التي تريد غزو المدينة والقضاء على الدين القويم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ليخرج به الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد القهار، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، وكانت هذه الخطة الحربية متبعة عند الفرس ولم تكن تعرفها العرب قبل ذلك، وقد استحب الرسول صلى الله عليه وسلم رأيه، فأمر بحفر الخندق في السهل الواقع شمال غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو.
وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم حفر الخندق بين المسلمين، وجعل لكل عشرة أنفار أربعين ذراعا، وعمل عليه الصلاة والسلام إلى جانب أصحابه في حفر الخندق، فكان ينقل التراب حتى علا جلده الطيب الطاهر، وكان ذلك منه ترغيبا وتشجيعا للمسلمين على العمل- وفي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في حفر الخندق:" عبرة بالغة توضح لك حقيقة المساواة التي يرسيها المجتمع الإسلامي بين جميع أفراده المسلمين، وتكشف لك عن أن العدالة والمساواة، ليستا في الاعتبار مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع أو يوضع منه في إطار لامع براق، وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعي الذي تنبثق منه عامة القيم والمبادئ الإسلامية ظاهرا وباطنا"(فقه السيرة سعيد رمضان البوطي:ص:231) وقد حفر المسلمون الخندق في عجل قبل وصول الأحزاب، وكان البرد شديدا، ولم يكونوا رضوان الله عليهم يجدون من القوت إلا ما يسد الرمق، وقد لا يجدونه، يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين" (رواه الترمذي: رقم:2371).
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وكانوا قرابة ثلاثة آلاف مقاتل، فجعل ظهورهم إلى جبل سلع ووجوههم إلى العدو وجعل الخندق بينهم وبين الأحزاب، وجعل النساء والأطفال في أطام المدينة (الآطام جمع أطم وهو الحصن أو البيت المرتفع).
ثانيا: مواجهة العدو:
بعد أن أتم المسلمون حفر الخندق وصلت قريش ومن معها من الأحزاب، وراعها ما رأت من أمر الخندق إذ لا عهد لهم بمثله. وبقي المشركون ينتظرون أياما وليلي يدورون حول الخندق يتحسسون مكانا ضيقا لاقتحامه أو سبيلا للدخول إلى المدينة، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد، فقد واجهوهم مواجهة عنيفة، وجاهدوهم جهادا مجيدا وكانوا يرشقونهم بالنبل حتى أفشلوا كل محاولاتهم، ولما كان الخندق حائلا بين الأحزاب، والمسلمين لم يجر بينهما قتال مباشر، بل اقتصروا على المراماة والمراشقة بالنبل، وفي هذه المراماة قتل عدد قليل من رجال الجيشين: ستة من المسلمين وعشرة من الشركين، ولم يقتل إلا رجل واحد أو اثنين من الجنود بالسيف، وفي هذه المراماة رمى سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكحل، يقول ابن القيم: " وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه، قالوا إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم" (زاد المعاد، 3/272)
جـ – مؤامرة يهود بني قريظة:
لما يئس الأحزاب من اقتحام الخندق والعبور إلى المدينة، تسلل زعيم بني النضير حيي بن الأخطب إلى بني قريظة وأقنعهم بفسخ العهد الذي بينهم وبين المسلمين وأعطاه عهدا وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان عن حرب المسلمين ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك (سيرة هشام2/220/221)، فنقض كعب بن أسد عهده وبريء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في حربهم ضد المدينة المنورة، (أنظر محاضرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لليهود)، وهكذا أحيط بالمسلمين من كل حدب وصوب، واشتد الأمر عليهم وعظم البلاء، فلم يكن يحول بينهم وبين بني قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء اليهود الغادرين في غير منعة وحصن، وصاروا كما يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } (الأحزاب/10) (أي بنو قريظة من فوق من الجنوب الغربي، وقريش وغطفان من أسفل، أي من الشمال الغربي والشرقي).
د- خطة الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة الأحزاب:
أمام هذا الحصار الشديد المفروض على المدينة المنورة، وهذا الغدر اليهودي، كان لابد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يضع خطة محكمة وحاسمة لمجابهة الظرف العصيب تفضي إلى اتخاذ الأحزاب وتفريق جمعهم.
أولا: محاولة عقد الصلح مع غطفان:
لما اشتد الأمر على المسلمين فكر النبي صلى الله عليه وسلم في مصالحة عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفوا عن قتال المسلمين، ويخف ضغط الحصار عن المدينة، ويتفرغ جيش المسلمين لقريش، فيلحقوا بها الهزيمة الساحقة، فاستشار عليه الصلاة والسلام، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا يا رسول الله: أمرا تحبه فتصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا، قال بل شيئا أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكثر عليكم من شوكتكم إلى أمر ما) فقال له سعد بن معاذ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك" سيرة بن هشام، 2/238).
يرى سعيد رمضان البوطي أن الحكمة من استشارته صلى الله عليه وسلم للسعدين بخصوص مصالحة غطفان مقابل إعطائهم ثلث ثمار المدينة "أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه الصادقون من القوة المعنوية، والاعتماد على نصر الله وتوفيقه، رغم هذا الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة، إلى جانب ما طلعت به بنو قريظة في الوقت نفسه من نقض العهود والمواثيق، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم- كما قد رأيت- أنه لم يكن يجب أن يسوق أصحابه إلى حرب أو مغامرة لا يجدون في أنفسهم شجاعة كافية لخوضها أو لا يؤمنون بجدواها، وقد كان هذا من أبرز أساليبه التربوية صلى الله عليه وسلم لأصحابه" (فقه السيرة،ص:233).
ثانيا: دور نعيم بن مسعود في هزم الأحزاب:
لما أراد الله تعالى أن يكفي المؤمنين القتال، ويهزم أحزاب المشركين، قيض الله تعالى للمسلمين رجلا من غطفان اسمه نعيم بن مسعود بن عامر، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى عليه وسلم:"إنما أنت رجل واحد ولكن خذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة" فخرج نعيم بن مسعود فأتى بني قريظة فأقنعهم بعدم التورط مع قريش حتى يأخذوا منهم رهائن، لكيلا يولوا الأدبار، ويتركوهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع المسلمين بالمدينة، ثم أتى قريشا فأخبرهم أن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا وأنهم قد اتفقوا سرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يختطفوا عددا من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلوهم دليلا على ندمهم، وقال لهم فإن أرسلت إليكم بنو قريظة تلتمس منكم رهنا من رجالكم فإياكم أن تسلموهم رجلا منكم، ثم أتى غطفان وقال لهم مثل الذي قال لقريش، فلما أراد أبو سفيان مهاجمة جيش المسلمين يوم السبت من شوال السنة الخامسة للهجرة، أرسل إلى بني قريظة يطالبهم بالاستعداد لخوض غمار الحرب، فأبت قريظة حتى يرسلوا إليهم رهائن، فصدقت قريش ما جاءهم به نعيم بن مسعود، فأرسلت قريش إلى بني قريظة تحثها على الخروج لمحاربة جيش المسلمين، وتمتنع عن تقديم الرهائن، فصدق يهود بني قريظة ما جاءهم به نعيم بن مسعود، وبذلك زرع المسلمون بذور الشك والفرقة بين الأحزاب، ودبت الفرقة بين صفوفهم وخارت عزائمهم.
هـ- معجزة الرياح:
أرسل الله تعالى ليلة المعركة ريحا هوجاء قلبت قدور المشركين، واقتلعت خيامهم، وقطعت أوتادهم، وأطفأت نيرانهم، ودفنت رحالهم، وزلزلت أفئدتهم من الرعب، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضاق بها ذرعا، فنادى في الأحزاب بالرحيل دون أن ينالوا خيرا أو نصرا، وكفى الله رسوله والمؤمنين القتال، وكانت هذه الريح من جنود الله الذين أرسلهم على المشركين وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }(الأحزاب/9). وقوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }(الأحزاب25).
انتهى حصار المدينة بانتصار المسلمين ورجعت الأحزاب إلى أوطانها مهزومة مخذولة فقد صدق الله رسوله وأجاب دعوته التي كان يرددها طوال الحصار الشديد على المدينة "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" (صحيح البخاري كتاب الجهاد 1/411.)
لقد تأكد للمشركين بعد هذه الغزوة أن قوة العرب مهما كبرت لن تستطيع أن تقتلع دعوة الله من هذه الأرض، وأن نصر الله آت لا ريب فيه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ماضون في نشر هذا الدين لا يصدهم عن ذلك تحزب الأحزاب ولا تجند الجنود، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب هذه المعركة" الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم"( صحيح البخاري: 2/590)
بعد هزيمة قريش في معركة بدر الكبرى، وبعد أن تضرر اقتصادها نتيجة إغارة المسلمين على قوافلها التجارية الذاهبة إلى الشام، وبعد أن اهتزت مكانتها الدينية والسياسية بين العرب، لم يبق أمامها إلا طريقين:
"إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريقة الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد وعزمها القديم، وتقضي على قوات المسلمين، بحيث لا يبق لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد" (الرحيق المختوم، ص: 173)
أ – أسباب الغزوة:
وقعت غزوة أحد في 15 من شوال في العام الثالث للهجرة، وسببها أن قريشا أرادت أن تثأر ليوم بدر حيث فقدت سبعين رجلا من سادتها وزعمائها، فأخذت تستعد وتتأهب سنة كاملة لخوض حرب شاملة للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم، واستئصال دعوته من المدينة، وأول ما فعلته قريش بعد عودتها من بدر، أنها احتجزت العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سببا في معركة بدر ( وهي كما قلنا سابقا أنها كانت محملة بثروة طائلة تقدر ب 1000 بعير و50 ألف دينار ذهبي) لتستعين بها في تجهيز جيش قوي مزود بالعتاد والسلاح.
وبالفعل استطاعت قريش أن تجهز جيشا قويا يبلغ عدد مقاتليه ثلاثة آلاف مقاتل من قريش ومن والاها من كنانة وتهامة والأحابيش، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وخرجت معهم مجموعة من النساء لإثارة حماسهم وخوفهم من العار إذا فروا من ساحة المعركة. وكانت القيادة العامة للجيش لأبي سفيان بن حرب، وعهدت قيادة الميمنة لخالد بن الوليد، وقيادة الميسرة لعكرمة بن أبي جهل. (زاد المعاد، ابن القيم الجوزية، 3/192)
ب – الاستعداد والتأهب لمواجهة العدو:
لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر خروج قريش لحرب المسلمين استشار عليه السلام أصحابه في الخروج إلى المشركين لقتالهم أو البقاء في المدينة والتحصن فيها فإن دخلوا عليهم قاتلوهم على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي الذي يستحسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووافقه عليه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فقام جماعة منهم ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج وألحوا عليه في ذلك، وقالوا يا رسول الله: اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأيهم، ودخل بيته ولبس لَأْمته (درعه) وأخذ سيفه ثم خرج على الناس، فندم الذين أشاروا عليه بالخروج، إذ كانوا سببا في حمله على خلاف رأيه، وقالوا استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ينبغي لنبي إذا لبس لَأْمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ( سيرة ابن هشام:2/65/66)، ثم أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وخوض المعركة الحاسمة مع قريش، وقد عمل صلى الله عليه وسلم على إعداد جيشه إعدادا يمكنه من مواجهة قريش وإلحاق هزيمة ساحقة بها كتلك التي لاقتها في معركة بدر الكبرى، كما عمل عليه الصلاة والسلام على وضع خطة عسكرية فريدة لخوض هذه الحرب تبرز براعته صلى الله عليه وسلم العسكرية، التي تتصف بها قيادته في الحروب، ومن أهم الاستعدادات التي اتخذها عليه السلام ما يلي:
أولا: إعداد الجيش الإسلامي إعدادا جيدا:
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة قريش في جيش يتألف من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وفارسان لا غير، وقد قسم عليه السلام جيشه إلى ثلاثة أقسام:
- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير.
- كتيبة الأوس من الأنصار وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
- كتيبة الخزرج من الأنصار وأعطى لواها الحباب بن المنذر.
وجعل على قيادة الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان على الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من صحابته صلى الله عليه وسلم، المعروفين بالبسالة والشجاعة، أما القيادة العليا للجيش فكانت له صلى الله عليه وسلم.
وقد رفض صلى الله عليه وسلم، أن يستعين بيهود الخزرج الذين خرجوا مع عبد الله بن أبي بن سلول لقتال المشركين وردعهم عن المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: "مروهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بأهل الكفر على أهل الشرك" كما أنه صلى الله عليه وسلم، رد مجموعة من الفتيان الذين رغبوا في حرب المشركين والانضمام إلى جيش المسلمين لصغر سنهم، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري وغيرهم من الفتيان، وأجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج لأنهما كانا قويين يحسنان الرماية، وقد بلغا 15 سنة.
ثانيا: خطة المسلمين لخوض المعركة:
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة عسكرية محكمة لجيشه لخوض غمار معركة أحد، فعسكر بجيشه في موقع جيد يمكنه من التحكم في سير المعركة فجعله مستقبل المدينة، وجعل ظهره إلى جبل أحد، فصار جيش العدو فاصلا بين المسلمين وبين المدينة، ثم اختار عليه السلام، خمسين رجلا من خير الرماة بقيادة عبد الله بن جبير وجعلهم خلف جيش المسلمين على هضبة عالية مشرفة على أرض المعركة ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، ثم أصدر أوامره العسكرية الشديدة فقال لقائدهم : انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتون من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك" (ابن هشام: 2/65-66) ثم قال للرماة:"إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم"(رواه البخاري: في الجهاد:1/426).
وإذا تأملنا الكيفية التي أعد الرسول صلى الله عليه وسم بها جيش المسلمين وكيف نظم صفوفه، وكيف اختار الموقع المناسب لجيشه في ساحة المعركة، وكيف وضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ثم أمرهم بعدم مغادرة أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين، حتى يتلقوا الأوامر منه، تتضح لنا حقيقة بارزة وهي البراعة العسكرية التي كان يتصف بها صلى الله عليه وسلم "وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذه، فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره- حين يحتدم القتال- بسد الثملة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي(بجعل الرماة فوق الجبل لحماية ظهر الجيش) واختار لمعسكره موضعا مرتفعا يحتمي به- إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين – وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين" (الرحيق المختوم صفي الدين المبارك فوري: ص:180)
جـ - موقف المنافقين في المدينة:
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم لقتال المشركين – كما أسلفنا- في جيش بلغ عدده ألف مقاتل وقبل أن يصلوا إلى ميدان المعركة تمرد زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وانسحب بنحو ثلث الجيش (ثلاثمائة مقاتل ) عامتهم من شيعته وأصحابه محتجا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، ترك رأيه ( أي عدم الخروج من المدينة، وملاقاة العدو داخلها) وأطاع غيره، (سيرة ابن هشام:2/66)، والحقيقة أن هذا الانسحاب لم يكن بسبب رفض الرسول صلى الله عليه وسلم الأخذ برأيه، وإنما كان يرمي إلى إحداث "البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو وتعلو همته لرؤية هذا المنظر فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه")(الرحيق المختوم، ص:178). إلا أن تمرد المنافقين وانسحابهم بثلث الجيش لم يثن المسلمين عن مواصلة السير نحو ميدان المعركة ومواجهة العدو بسبعمائة مقاتل فقط، وفي هؤلاء المنافقين نزل قوله تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }(آل عمران167)
د- لقاء الجيشين وهزيمة المسلمين:
بدأت المعركة، والتقى الجيشان، واقتتلا قتالا شديدا وأبلى المسلمون بلاء حسان فكان النصر حليفهم، قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف، حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها، روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم (سوق) هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير، (ابن هشام، 2/77).
ولما رأى الرماة انهزام المشركين وهروبهم من ساحة المعركة، ورأوا المسلمين، يسلبون ويجمعون الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ظنوا أن المعركة قد حسم أمرها بنصر مؤزر للمسلمين فترك أغلب الرماة أماكنهم التي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومها، ونزلوا ليفوزوا بالغنائم، فأخلوا الجبل وكشفوا ظهور المسلمين، فلما رأى خالد بن الوليد خلو الجبل من الرماة وضعف المقاومة منه، انتهز الفرصة والتف حول الجبل، وباغت المسلمين من الخلف، فقتل عبد الله بن الجبير وأصحابه الذين ظلوا فوق الجبل ولم ينزلوا لأخذ الغنائم، ثم هجم على جيش المسلمين من الخلف، وعاد المشركون الهاربون إلى أرض المعركة، فحوصر المسلمون من الأمام والخلف، ودارت بينهم وبين المشركين حربا ضارية، صمد المسلمون فيها أروع صمود، ثم أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل، وكانت هذه الشائعة من أشد ما أدخل الرعب في قلوب بعض المسلمين ففروا عائدين إلى المدينة، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصابته حجارتهم وشج وجهه، وخدشت ركبتاه وجرحت شفتاه السفلى، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلقات المغفر في وجنته، وتكاثر المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم يريدون قتله فثبت الرسول صلى الله عليه وسلم، وثبت معه نفر من المؤمنين يدافعون عنه بأجسادهم وأرواحهم يقول ابن هشام عن هزيمة المشركين في هذه المعركة، ثم إن الحرب هدأت بين الطرفين وانحسر المشركون منصرفين، وقد زهوا بالنصر الذي أحرزوه، وفزع الناس لقتلاهم، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب، واليمان، وأنس بن النضر، ومصعب بن عمير وعدد كبير غيرهم. وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم لمقتل عمه تأثرا شديدا، وقد مثل به فبقر بطنه وجدع أنفه وأذناه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من القتلى في ثوب واحد ثم يقول:" أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهم قدمه في اللحد، وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا" (سيرة ابن هشام،2/98) وانتهت معركة أحد بهزيمة المسلمين، وكان سبب هذه الهزيمة بعد ذلك النصر العظيم الذي كان لهم في أول المعركة، هو مخالفة الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ عدد قتلى المسلمين في هذه المعركة، سبعين رجلا، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار، أما قتلى قريش فكانوا اثنان وعشرون قتيلا، وفي هذه الغزوة يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(آل عمران: 152- 153).
2- غزوة الأحزاب (الخندق):
كان لهزيمة المسلمين في معركة أحد أثر سيء على سمعة الدولة الإسلامية الفتية، فزالت هيبتها، وتزعزعت مكانتها بين العرب، وتجرأ عليها الأعداء داخل المدينة وخارجها:
فاليهود جاهروا بعدائهم للمسلمين وعادوا من جديد لسياسة التآمر والغدر والمكائد، بل لقد وصل بهم الأمر إلى محاولة يهود بني النضير قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجرأت قبائل الأعراب على المسلمين فحاولوا مرات عديدة الإغارة على المدينة، وتعدت جرأتهم إلى قتل بعوث الدعاة الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى القبائل العربية ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم أمر هذا الدين فقتلوا من صحابته صلى الله عليه وسلم عشرة في وقعة الرجيع، وقتلوا سبعين صحابيا من فضلاء الصحابة وقرائهم في وقعة بئر معونة (أنظر محاضرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود). وتجرأت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعاودت غزوة المدينة بعد مرور سنة على غزوة أحد، حيث خرج أبو سفيان في ألفين من مشركي مكة، ومعه خمسون فرسا، يبغي القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، في موعد كان قد ضرب للمسلمين في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة، وتسمى هذه الغزوة بغزوة السويق، ولكن أبا سفيان لم يجد الجرأة لمواجهة جيش المسلمين، فرجع بجيشه إلى مكة دون أن يلتقي الجيشان.
وهاهي القبائل العربية تتحزب وتتجند بتحريض من اليهود لغزو المدينة، فمن الجنوب جاءت قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة، ومن الشرق جاءت قبائل غطفان: بنو فزراة وبنو مرة وبنو أشجع وبنو أسد، واتجهت كل هذه الأحزاب وتحركت للقضاء على الإسلام والمسلمين.
أ - أسباب المعركة:
وقعت غزوة الأحزاب (الخندق) في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وسببها أن يهود بني النضير (الذين نزلوا خيبر وجلائهم من المدينة) لما رأوا انتصار قريش يوم أحد تجرؤوا على للمسلمين من جديد وأخذوا يعدون العدة لتهيئة ضربة قاتلة للمسلمين للثأر لأنفسهم، وطمعا في العودة إلى ديارهم وأملاكهم في المدينة التي طردوا منها. فخرج عشرون رجلا من زعماء اليهود وسادات بني الضير(سلان ابن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع) إلى قريش بمكة يحرضونهم "على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤلبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان، فدعوهم فاستجابوا لهم ثم طافوا في قبائل العربي يدعوتهم إلى ذلك. فاستجاب لهم من استجاب، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة وجاء غطفان وقائدهم عيينة بن حصن وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف" (زاد المعاد: ص:3/271).
ب - الاستعداد والتأهب لمواجهة الأحزاب:
سبق وأن أوضحنا أثناء حديثنا عن معركة بدر وأحد أن للنصر في كل معركة أسباب متعددة مثل حسن الإعداد والتدريب واختيار الزمان والمكان المناسبين، وإعداد خطة محكمة للجيش لخوض غمار المعركة، وكل هذه الأمور حرص الرسول صلى الله عليه وسلم، على الأخذ بها وكانت سببا في انتصاره انتصارا عظيما في معركة بدر، وأن مخالفة هذه الأسباب كانت وراء هزيمة المسلمين في معركة أحد، وكعادته صلى الله عليه وسلم فإنه في معركة الأحزاب أيضا أخذ بمجموعة من التدابير ساعدته على مواجهة الظرف العصيب الذي كانت تواجهها المدينة المنورة عندما حاصرتها الأحزاب بجيش عرمرم يقدر بعشرة آلاف مقاتل. ومن هذه التدابير التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي.
أولا: حفر الخندق:
بعدما ترامت الأخبار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفيد أن ساسة اليهود وقاداتهم قد أفلحوا في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وأن قريشا وحلفاءها وغطفان وحلفاءها، خرجوا لقتال المسلمين، جمع الرسول عليه السلام أصحابه واستشارهم في الكيفية التي يواجهون بها الأحزاب المحزبة، والجنود المجندة التي تريد غزو المدينة والقضاء على الدين القويم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ليخرج به الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد القهار، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، وكانت هذه الخطة الحربية متبعة عند الفرس ولم تكن تعرفها العرب قبل ذلك، وقد استحب الرسول صلى الله عليه وسلم رأيه، فأمر بحفر الخندق في السهل الواقع شمال غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدو.
وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم حفر الخندق بين المسلمين، وجعل لكل عشرة أنفار أربعين ذراعا، وعمل عليه الصلاة والسلام إلى جانب أصحابه في حفر الخندق، فكان ينقل التراب حتى علا جلده الطيب الطاهر، وكان ذلك منه ترغيبا وتشجيعا للمسلمين على العمل- وفي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في حفر الخندق:" عبرة بالغة توضح لك حقيقة المساواة التي يرسيها المجتمع الإسلامي بين جميع أفراده المسلمين، وتكشف لك عن أن العدالة والمساواة، ليستا في الاعتبار مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع أو يوضع منه في إطار لامع براق، وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعي الذي تنبثق منه عامة القيم والمبادئ الإسلامية ظاهرا وباطنا"(فقه السيرة سعيد رمضان البوطي:ص:231) وقد حفر المسلمون الخندق في عجل قبل وصول الأحزاب، وكان البرد شديدا، ولم يكونوا رضوان الله عليهم يجدون من القوت إلا ما يسد الرمق، وقد لا يجدونه، يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين" (رواه الترمذي: رقم:2371).
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وكانوا قرابة ثلاثة آلاف مقاتل، فجعل ظهورهم إلى جبل سلع ووجوههم إلى العدو وجعل الخندق بينهم وبين الأحزاب، وجعل النساء والأطفال في أطام المدينة (الآطام جمع أطم وهو الحصن أو البيت المرتفع).
ثانيا: مواجهة العدو:
بعد أن أتم المسلمون حفر الخندق وصلت قريش ومن معها من الأحزاب، وراعها ما رأت من أمر الخندق إذ لا عهد لهم بمثله. وبقي المشركون ينتظرون أياما وليلي يدورون حول الخندق يتحسسون مكانا ضيقا لاقتحامه أو سبيلا للدخول إلى المدينة، لكن المسلمين وقفوا لهم بالمرصاد، فقد واجهوهم مواجهة عنيفة، وجاهدوهم جهادا مجيدا وكانوا يرشقونهم بالنبل حتى أفشلوا كل محاولاتهم، ولما كان الخندق حائلا بين الأحزاب، والمسلمين لم يجر بينهما قتال مباشر، بل اقتصروا على المراماة والمراشقة بالنبل، وفي هذه المراماة قتل عدد قليل من رجال الجيشين: ستة من المسلمين وعشرة من الشركين، ولم يقتل إلا رجل واحد أو اثنين من الجنود بالسيف، وفي هذه المراماة رمى سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكحل، يقول ابن القيم: " وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه، قالوا إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم" (زاد المعاد، 3/272)
جـ – مؤامرة يهود بني قريظة:
لما يئس الأحزاب من اقتحام الخندق والعبور إلى المدينة، تسلل زعيم بني النضير حيي بن الأخطب إلى بني قريظة وأقنعهم بفسخ العهد الذي بينهم وبين المسلمين وأعطاه عهدا وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان عن حرب المسلمين ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك (سيرة هشام2/220/221)، فنقض كعب بن أسد عهده وبريء مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في حربهم ضد المدينة المنورة، (أنظر محاضرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لليهود)، وهكذا أحيط بالمسلمين من كل حدب وصوب، واشتد الأمر عليهم وعظم البلاء، فلم يكن يحول بينهم وبين بني قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء اليهود الغادرين في غير منعة وحصن، وصاروا كما يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } (الأحزاب/10) (أي بنو قريظة من فوق من الجنوب الغربي، وقريش وغطفان من أسفل، أي من الشمال الغربي والشرقي).
د- خطة الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة الأحزاب:
أمام هذا الحصار الشديد المفروض على المدينة المنورة، وهذا الغدر اليهودي، كان لابد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يضع خطة محكمة وحاسمة لمجابهة الظرف العصيب تفضي إلى اتخاذ الأحزاب وتفريق جمعهم.
أولا: محاولة عقد الصلح مع غطفان:
لما اشتد الأمر على المسلمين فكر النبي صلى الله عليه وسلم في مصالحة عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفوا عن قتال المسلمين، ويخف ضغط الحصار عن المدينة، ويتفرغ جيش المسلمين لقريش، فيلحقوا بها الهزيمة الساحقة، فاستشار عليه الصلاة والسلام، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا يا رسول الله: أمرا تحبه فتصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا، قال بل شيئا أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكثر عليكم من شوكتكم إلى أمر ما) فقال له سعد بن معاذ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك" سيرة بن هشام، 2/238).
يرى سعيد رمضان البوطي أن الحكمة من استشارته صلى الله عليه وسلم للسعدين بخصوص مصالحة غطفان مقابل إعطائهم ثلث ثمار المدينة "أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه الصادقون من القوة المعنوية، والاعتماد على نصر الله وتوفيقه، رغم هذا الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة، إلى جانب ما طلعت به بنو قريظة في الوقت نفسه من نقض العهود والمواثيق، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم- كما قد رأيت- أنه لم يكن يجب أن يسوق أصحابه إلى حرب أو مغامرة لا يجدون في أنفسهم شجاعة كافية لخوضها أو لا يؤمنون بجدواها، وقد كان هذا من أبرز أساليبه التربوية صلى الله عليه وسلم لأصحابه" (فقه السيرة،ص:233).
ثانيا: دور نعيم بن مسعود في هزم الأحزاب:
لما أراد الله تعالى أن يكفي المؤمنين القتال، ويهزم أحزاب المشركين، قيض الله تعالى للمسلمين رجلا من غطفان اسمه نعيم بن مسعود بن عامر، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى عليه وسلم:"إنما أنت رجل واحد ولكن خذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة" فخرج نعيم بن مسعود فأتى بني قريظة فأقنعهم بعدم التورط مع قريش حتى يأخذوا منهم رهائن، لكيلا يولوا الأدبار، ويتركوهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع المسلمين بالمدينة، ثم أتى قريشا فأخبرهم أن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا وأنهم قد اتفقوا سرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يختطفوا عددا من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلوهم دليلا على ندمهم، وقال لهم فإن أرسلت إليكم بنو قريظة تلتمس منكم رهنا من رجالكم فإياكم أن تسلموهم رجلا منكم، ثم أتى غطفان وقال لهم مثل الذي قال لقريش، فلما أراد أبو سفيان مهاجمة جيش المسلمين يوم السبت من شوال السنة الخامسة للهجرة، أرسل إلى بني قريظة يطالبهم بالاستعداد لخوض غمار الحرب، فأبت قريظة حتى يرسلوا إليهم رهائن، فصدقت قريش ما جاءهم به نعيم بن مسعود، فأرسلت قريش إلى بني قريظة تحثها على الخروج لمحاربة جيش المسلمين، وتمتنع عن تقديم الرهائن، فصدق يهود بني قريظة ما جاءهم به نعيم بن مسعود، وبذلك زرع المسلمون بذور الشك والفرقة بين الأحزاب، ودبت الفرقة بين صفوفهم وخارت عزائمهم.
هـ- معجزة الرياح:
أرسل الله تعالى ليلة المعركة ريحا هوجاء قلبت قدور المشركين، واقتلعت خيامهم، وقطعت أوتادهم، وأطفأت نيرانهم، ودفنت رحالهم، وزلزلت أفئدتهم من الرعب، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضاق بها ذرعا، فنادى في الأحزاب بالرحيل دون أن ينالوا خيرا أو نصرا، وكفى الله رسوله والمؤمنين القتال، وكانت هذه الريح من جنود الله الذين أرسلهم على المشركين وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }(الأحزاب/9). وقوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }(الأحزاب25).
انتهى حصار المدينة بانتصار المسلمين ورجعت الأحزاب إلى أوطانها مهزومة مخذولة فقد صدق الله رسوله وأجاب دعوته التي كان يرددها طوال الحصار الشديد على المدينة "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم" (صحيح البخاري كتاب الجهاد 1/411.)
لقد تأكد للمشركين بعد هذه الغزوة أن قوة العرب مهما كبرت لن تستطيع أن تقتلع دعوة الله من هذه الأرض، وأن نصر الله آت لا ريب فيه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ماضون في نشر هذا الدين لا يصدهم عن ذلك تحزب الأحزاب ولا تجند الجنود، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب هذه المعركة" الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم"( صحيح البخاري: 2/590)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق