بقلم الأستاذة: مليكة حفان
1- الكناية لغة واصطلاحا:
تدور المادة المعجمية للكناية (ك - ن – ن) حول معنى الستر والإخفاء، يقال كنيت الشيء إذا سترته، وكنى عن الشيء إذا أخفاه ولم يصرح به، وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ }(البقرة 235) إذا سترتم طلبكم وأضمرتموه في قلوبكم ، فلم تذكروه بألسنتكم لا مصرحين ولا معرضين، وقال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }(النمل 74) فالكناية في الصدور تعني الإخفاء وعدم الإظهار، ولهذا جاءت مقابلة للإعلان في الآية الكريمة.
يقول ابن منظور " الكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنى عن الأمر بغيره يكني كناية، إذا تكلم بغيره مما يستدل عليه" (لسان العرب مادة:( كنى).
أما عبد القاهر الجرجاني (تـ 471 هـ) فقد وضع للكناية حدا اصطلاحيا وبعدا بيانيا قائلا "المراد بالكناية ههنا: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه" (دلائل الإعجاز، 40) ويدلل عبد القاهر على صحة هذا الرأي من خلال الأمثلة التي سقاها، مثال ذلك قولهم: ( هو طويل النجاد) يريدون طول القامة و(كثير رماد القدر) يعنون كثرة القِرى، وفي المرأة (نؤوم الضحى) والمراد بها مترفة مخدومة، لها ما يكفيها أمرها، فقد أرادوا بذلك كله كما ترى معنى ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان، أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد؟ وإذا كثر القِرى كثر الرماد" ( الدلائل: 105) وكأن عبد القاهر الجرجاني يريد الكناية، المعنى الثاني الذي يستفاد من المعنى الأول للفظ لا من اللفظ نفسه، ومن جميع ما ذكره يتجلى تعريفه للكناية، بإثبات معنى من المعاني لا يستفاد من اللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن من معنى المعنى الذي يستند إلى المعنى الأولي بما أومئ به إليه وجعله دليلا عليه. وحديث عبد القاهر الجرجاني عن المعنى الذي يردف المعنى المذكور، يشير إلى ما ذكره قدامة ابن جعفر (نقد الشعر 157- 158) عن الكناية التي لم يتحدث عنها من خلال هذا المصطلح، بل ذكرها في أنواع ائتلاف اللفظ بالمعنى وأطلق عليها (الإرداف) وعرفه بقوله: " هو أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني، فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة قول عمر بن أبي ربيعة:
بَعيدَةُ مَهوى القُرطِ إِمّا لِنَوفَلٍ *** أَبوها وَإِمّا عَبدُ شَمسٍ وَهاشِمُ
فإنما أراد الشاعر أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه الخاص به بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد: وهو بعد مهوى القرط، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول: إن الأسلوب الكنائي يتجاذبه جانبان على حد تعبير ابن الأثير:
تدور المادة المعجمية للكناية (ك - ن – ن) حول معنى الستر والإخفاء، يقال كنيت الشيء إذا سترته، وكنى عن الشيء إذا أخفاه ولم يصرح به، وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ }(البقرة 235) إذا سترتم طلبكم وأضمرتموه في قلوبكم ، فلم تذكروه بألسنتكم لا مصرحين ولا معرضين، وقال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }(النمل 74) فالكناية في الصدور تعني الإخفاء وعدم الإظهار، ولهذا جاءت مقابلة للإعلان في الآية الكريمة.
يقول ابن منظور " الكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنى عن الأمر بغيره يكني كناية، إذا تكلم بغيره مما يستدل عليه" (لسان العرب مادة:( كنى).
أما عبد القاهر الجرجاني (تـ 471 هـ) فقد وضع للكناية حدا اصطلاحيا وبعدا بيانيا قائلا "المراد بالكناية ههنا: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه" (دلائل الإعجاز، 40) ويدلل عبد القاهر على صحة هذا الرأي من خلال الأمثلة التي سقاها، مثال ذلك قولهم: ( هو طويل النجاد) يريدون طول القامة و(كثير رماد القدر) يعنون كثرة القِرى، وفي المرأة (نؤوم الضحى) والمراد بها مترفة مخدومة، لها ما يكفيها أمرها، فقد أرادوا بذلك كله كما ترى معنى ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان، أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد؟ وإذا كثر القِرى كثر الرماد" ( الدلائل: 105) وكأن عبد القاهر الجرجاني يريد الكناية، المعنى الثاني الذي يستفاد من المعنى الأول للفظ لا من اللفظ نفسه، ومن جميع ما ذكره يتجلى تعريفه للكناية، بإثبات معنى من المعاني لا يستفاد من اللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن من معنى المعنى الذي يستند إلى المعنى الأولي بما أومئ به إليه وجعله دليلا عليه. وحديث عبد القاهر الجرجاني عن المعنى الذي يردف المعنى المذكور، يشير إلى ما ذكره قدامة ابن جعفر (نقد الشعر 157- 158) عن الكناية التي لم يتحدث عنها من خلال هذا المصطلح، بل ذكرها في أنواع ائتلاف اللفظ بالمعنى وأطلق عليها (الإرداف) وعرفه بقوله: " هو أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني، فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة قول عمر بن أبي ربيعة:
بَعيدَةُ مَهوى القُرطِ إِمّا لِنَوفَلٍ *** أَبوها وَإِمّا عَبدُ شَمسٍ وَهاشِمُ
فإنما أراد الشاعر أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه الخاص به بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد: وهو بعد مهوى القرط، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول: إن الأسلوب الكنائي يتجاذبه جانبان على حد تعبير ابن الأثير:
- جانب الحقيقة وهو الدلالة القريبة المباشرة.
- جانب المجاز: وهو الدلالة البعيدة غير المباشرة.
يقول ابن الأثير معرفا الكناية: "كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز، بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز" ( المثل السائر: 248) فالفرق بينهما وبين المجاز هو في نوع القرينة، لأن القرينة في المجاز تمنع من إرادة المعنى الأصلي على حين لا تمنع القرينة هذا المعنى الأصلي في الكناية، فلو نظرنا إلى قوله تعالى "{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }البقرة19 فهو كما ذكرنا مجاز مرسل علاقته الكلية، لوجدنا أن المعنى الحقيقي تمتنع إرادته، إذ لا يمكن تحققه لاستحال وضع كل الأصابع في الأذن ، ومن ثم حمل لفظ (الأصابع) على دلالة مجازية، وأصبح المقصود بها الأنامل.
أما الكناية فإنها تختلف عن المجاز في أن قرينتها لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي مع المعنى المجازي فيها، إذ لا مانع عقلا وعادة من أن يريد المتكلم بالأسلوب الكنائي معنييه معا، ففي قول امرئ القيس:
وَتُضحي فَتيتُ المِسكِ فَوقَ فِراشِها *** نَؤومُ الضُحى لَم تَنتَطِق عَن تَفَضُّلِ
فقد كان امرؤ القيس يريد ان يتحدث عن النعمة والرفه التي تعيش فيهما هذه المرأة، وأنها نشأت في أحضان الغنى فالرائحة الطيبة تلازم فراشها، ولديها من يقوم بالخدمة عنها، ولذلك فهي تنام الضحى، على غير ما جرت عليه عادة نساء العرب من السعي على الرزق وقت البكور. ولكنه لم يعبر عن ذلك بالألفاظ الدالة عليها دلالة مباشرة، ولجأ إلى معنى آخر (نؤوم الضحى) من شأنه أن يستلزم المعنى السابق، فالقرينة تدل عليه، ولكن هذه القرينة لا تمنع في الوقت نفسه أن يراد حقيقةأ أنها مع ترفها ونعيمها تنام كثيرا في وقت الضحى أو يتأخر وقت نومها إلى هذا الوقت، وفي هذا يقول السكاكي: " الفرق بين المجاز والكناية...أن الكناية لا تتنافى وإرادة الحقيقة بلفظها، فلا يمتنع في قولك: (فلان طويل النجاد) أن تريد طول نجاده من غير ارتكاب تأول.. والمجاز ينافي ذلك، فلا يصح في نحو( رعينا الغيث) أن تريد معنى الغيث، وفي نحو قولك (في الحمام أسد ) أن تريد معنى من غير تأويل" ( مفتاح العلوم، ص:170).
2 - أقسام الكناية:
قسم البلاغيون الكناية إلى ثلاثة أنواع:
- الكناية عن الصفة.
- الكناية عن الموصوف.
- الكناية عن النسبة.
أ -الكناية عن الصفة:
المراد بالصفة الصفة المعنوية، كالجود والكرم والإيباء والشجاعة، وأمثال ذلك، لا النعت المعبر عنه بالصفة في اصطلاح النحويين، والكناية عن الصفة تتمثل في كل أسلوب يراد به إلصاق صفة ما بموصوف ما، ولكن المتكلم لا يعمد في أسلوبه إلى ذكر الصفة مباشرة وإنما يلجأ إلى ذكر أمر بينه وبين تلك الصفة تلازم.
ومن ذلك كثير من الكنايات التي ذكرناها كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً }(الفرقان27) فقوله تعالى (يعض الظالم على يديه) كناية عن صفة هي (الندم والحسرة). ونجد في هذا التعبير موصوفا هو "الظالم" وصفة مباشرة نسبت إليه وهي (عضه على يديه ) وقد توصلت الآية الكريمة بذكر الصفة المباشرة وهي (عض اليد) إلى الصفة المراد من التعبير (وهي الندم والحسرة) لما بين الصفتين من تلازم عرفي.
ومن ذلك ما ورد في وصية لقمان لابنه فيما يحكيه الله سبحانه بقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }لقمان18 فقد كنى القرآن الكريم عن الكبر بقوله (تُصَعِّرْ خَدَّكَ) أي لا تعليه تكبرا. وأصل صاعر الصعر، وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، والكناية غنية بالدلالات. فليس مطلوبا بها التواضع وحده، بل يشعر المرء من خلالها بأن الكبر داء يصيب بعض الناس فيفقدهم الاعتدال، وينفر الناس منهم، ثم تتبع الآية هذه الكناية عن الصفة بكناية أخرى، هي قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً }الإسراء37 لما في هذا المشي من الاختيال. ومن الشعر العربي نستق المثال الآتي يقول الملتمس الضبعي:
يَكادُ إِذا ما أَبصَرَ الضَيفَ مُقبِلاً *** يُكَلِّمُهُ مِن حُبِّهِ وَهوَ أَعجَمُ
يتخذ الشاعر من ألفة الكلب للزائرين وعدم نباحه وسيلة للمدح بالكرم.
ب - الكناية عن موصوف:
وذلك إذا أريد التعبير عن موصوف ما، فلا يصرح المتكلم بذكر هذا الموصوف، ولكن يذكر صفات بينها وبين الموصوف ملازمة لاختصاصه بها، كما في قول حافظ إبراهيم:
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَه رِ كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّي
فقد كنى الشاعر عن (المصريين القدماء) بقوله (بناة الأهرام) فهو لم يصرح بالمصريين القدماء ، وإنما ذكر صفة ملازمة لهم، وهي أنهم من بنوا الأهرام.
وقال الشاعر نزار قباني:
يا شام أين هما عينا معاوية *** وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
فقد كنى نزار قباني عن أجدادنا العرب بقوله من زحموا بالمنكب الشهبا، لأن هؤلاء الأجداد حملوا رايات الإسلام عالية خفاقة، وجابوا بها مشارق الأرض ومغاربها، ولم تستطع قوة مهما عظمت أن تقف في وجههم وأن تثنيهم عما خرجوا من أجله.
جـ - الكناية عن نسبة:
وتتمثل في كل تعبير يريد به المتكلم نسبة صفة إلى موصوف، فلا يصرح بتلك النسبة، بل ينسبها إلى ما له علاقة بالموصوف كما في قول زياد الأعجم:
إِنَّ السَّماحَةَ وَالمُروءَةَ وَالنَّدى *** في قُبَّةٍ ضُرِبَت عَلى ابنِ الحَشرَجِ
فقد صرح الشاعر في البيت بصفات (السماحة والمروءة والندى) كما صرح بموصوف هو (ابن الحشرج) والشاعر يريد أن ينسب هذه الصفات إلى ذلك الموصوف وأن يجعلها من خواص صفاته، ولكنه لم يلجأ إلى التصريح، بل نسب هذه الصفات إلى القبة المضروبة على الموصوف، كناية عن نسبتها إلى الموصوف ذاته.
وقد يلجأ الشاعر إلى محاولة نسبة صفة إلى موصوف، عن طريق نفي صفة أخرى قبيحة، عن شيء له علاقة بالموصوف، كما في قول الشاعر:
يبيت بمنجاة عن اللؤم بيتها *** إذا ما بيوت بالملامة حلت
فالشاعر هنا يريد نسبة صفة العفاف إلى هذه المرأة وقد لجأ – في تحقيق ذلك – إلى نفي صفة اللؤم عن بيتها، فبيتها طاهر عفيف لا لؤم فيه، وهذا إيحاء بنسبة صفة العفة والطهارة إلى صاحبته، لأن البيت نفسه( بوصفه مبنى ) لا يوصف بأنه لئيم أو غير طاهر.
3 - التعريض:
التعريض مصاحبة للكناية في عامة كتب البلاغة، لما بين أسلوبه وأسلوب الكناية من تشابه، لأن كلا منهما يدل على معنيين أحدهما خفي مراد، وثانيهما ظاهر غير مراد غالبا، ولذا عرفوا التعريض بأنه" ما أشير به إلى غير المعنى بدلالة السياق" وعرفه آخرون بأنه "اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم، لا بالوضع الحقيقي أو المجازي. فالأسلوبان وإن تسابها فإن بينهما فرقا ينبع من طبيعة الدلالة في كل منهما، فعلى حين نجد الدلالة في أسلوب الكناية ترتد إلى التلازم العرفي بين المعنى القريب الظاهر والمعنى البعيد الخفي، نجد الدلالة في أسلوب التعريض لا تفهم إلا من الموقف أو المقام والإلمام به، مما عبروا عنه "بالسياق" أو المفهوم" في التعريفين السابقين، فلا تلازم بين المعنيين في أسلوب التعريض، على عكس الأسلوب الكنائي. ومن أمثلة التعريض قول الشاعر:
- جانب المجاز: وهو الدلالة البعيدة غير المباشرة.
يقول ابن الأثير معرفا الكناية: "كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز، بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز" ( المثل السائر: 248) فالفرق بينهما وبين المجاز هو في نوع القرينة، لأن القرينة في المجاز تمنع من إرادة المعنى الأصلي على حين لا تمنع القرينة هذا المعنى الأصلي في الكناية، فلو نظرنا إلى قوله تعالى "{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }البقرة19 فهو كما ذكرنا مجاز مرسل علاقته الكلية، لوجدنا أن المعنى الحقيقي تمتنع إرادته، إذ لا يمكن تحققه لاستحال وضع كل الأصابع في الأذن ، ومن ثم حمل لفظ (الأصابع) على دلالة مجازية، وأصبح المقصود بها الأنامل.
أما الكناية فإنها تختلف عن المجاز في أن قرينتها لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي مع المعنى المجازي فيها، إذ لا مانع عقلا وعادة من أن يريد المتكلم بالأسلوب الكنائي معنييه معا، ففي قول امرئ القيس:
وَتُضحي فَتيتُ المِسكِ فَوقَ فِراشِها *** نَؤومُ الضُحى لَم تَنتَطِق عَن تَفَضُّلِ
فقد كان امرؤ القيس يريد ان يتحدث عن النعمة والرفه التي تعيش فيهما هذه المرأة، وأنها نشأت في أحضان الغنى فالرائحة الطيبة تلازم فراشها، ولديها من يقوم بالخدمة عنها، ولذلك فهي تنام الضحى، على غير ما جرت عليه عادة نساء العرب من السعي على الرزق وقت البكور. ولكنه لم يعبر عن ذلك بالألفاظ الدالة عليها دلالة مباشرة، ولجأ إلى معنى آخر (نؤوم الضحى) من شأنه أن يستلزم المعنى السابق، فالقرينة تدل عليه، ولكن هذه القرينة لا تمنع في الوقت نفسه أن يراد حقيقةأ أنها مع ترفها ونعيمها تنام كثيرا في وقت الضحى أو يتأخر وقت نومها إلى هذا الوقت، وفي هذا يقول السكاكي: " الفرق بين المجاز والكناية...أن الكناية لا تتنافى وإرادة الحقيقة بلفظها، فلا يمتنع في قولك: (فلان طويل النجاد) أن تريد طول نجاده من غير ارتكاب تأول.. والمجاز ينافي ذلك، فلا يصح في نحو( رعينا الغيث) أن تريد معنى الغيث، وفي نحو قولك (في الحمام أسد ) أن تريد معنى من غير تأويل" ( مفتاح العلوم، ص:170).
2 - أقسام الكناية:
قسم البلاغيون الكناية إلى ثلاثة أنواع:
- الكناية عن الصفة.
- الكناية عن الموصوف.
- الكناية عن النسبة.
أ -الكناية عن الصفة:
المراد بالصفة الصفة المعنوية، كالجود والكرم والإيباء والشجاعة، وأمثال ذلك، لا النعت المعبر عنه بالصفة في اصطلاح النحويين، والكناية عن الصفة تتمثل في كل أسلوب يراد به إلصاق صفة ما بموصوف ما، ولكن المتكلم لا يعمد في أسلوبه إلى ذكر الصفة مباشرة وإنما يلجأ إلى ذكر أمر بينه وبين تلك الصفة تلازم.
ومن ذلك كثير من الكنايات التي ذكرناها كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً }(الفرقان27) فقوله تعالى (يعض الظالم على يديه) كناية عن صفة هي (الندم والحسرة). ونجد في هذا التعبير موصوفا هو "الظالم" وصفة مباشرة نسبت إليه وهي (عضه على يديه ) وقد توصلت الآية الكريمة بذكر الصفة المباشرة وهي (عض اليد) إلى الصفة المراد من التعبير (وهي الندم والحسرة) لما بين الصفتين من تلازم عرفي.
ومن ذلك ما ورد في وصية لقمان لابنه فيما يحكيه الله سبحانه بقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }لقمان18 فقد كنى القرآن الكريم عن الكبر بقوله (تُصَعِّرْ خَدَّكَ) أي لا تعليه تكبرا. وأصل صاعر الصعر، وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، والكناية غنية بالدلالات. فليس مطلوبا بها التواضع وحده، بل يشعر المرء من خلالها بأن الكبر داء يصيب بعض الناس فيفقدهم الاعتدال، وينفر الناس منهم، ثم تتبع الآية هذه الكناية عن الصفة بكناية أخرى، هي قوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً }الإسراء37 لما في هذا المشي من الاختيال. ومن الشعر العربي نستق المثال الآتي يقول الملتمس الضبعي:
يَكادُ إِذا ما أَبصَرَ الضَيفَ مُقبِلاً *** يُكَلِّمُهُ مِن حُبِّهِ وَهوَ أَعجَمُ
يتخذ الشاعر من ألفة الكلب للزائرين وعدم نباحه وسيلة للمدح بالكرم.
ب - الكناية عن موصوف:
وذلك إذا أريد التعبير عن موصوف ما، فلا يصرح المتكلم بذكر هذا الموصوف، ولكن يذكر صفات بينها وبين الموصوف ملازمة لاختصاصه بها، كما في قول حافظ إبراهيم:
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَه رِ كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّي
فقد كنى الشاعر عن (المصريين القدماء) بقوله (بناة الأهرام) فهو لم يصرح بالمصريين القدماء ، وإنما ذكر صفة ملازمة لهم، وهي أنهم من بنوا الأهرام.
وقال الشاعر نزار قباني:
يا شام أين هما عينا معاوية *** وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
فقد كنى نزار قباني عن أجدادنا العرب بقوله من زحموا بالمنكب الشهبا، لأن هؤلاء الأجداد حملوا رايات الإسلام عالية خفاقة، وجابوا بها مشارق الأرض ومغاربها، ولم تستطع قوة مهما عظمت أن تقف في وجههم وأن تثنيهم عما خرجوا من أجله.
جـ - الكناية عن نسبة:
وتتمثل في كل تعبير يريد به المتكلم نسبة صفة إلى موصوف، فلا يصرح بتلك النسبة، بل ينسبها إلى ما له علاقة بالموصوف كما في قول زياد الأعجم:
إِنَّ السَّماحَةَ وَالمُروءَةَ وَالنَّدى *** في قُبَّةٍ ضُرِبَت عَلى ابنِ الحَشرَجِ
فقد صرح الشاعر في البيت بصفات (السماحة والمروءة والندى) كما صرح بموصوف هو (ابن الحشرج) والشاعر يريد أن ينسب هذه الصفات إلى ذلك الموصوف وأن يجعلها من خواص صفاته، ولكنه لم يلجأ إلى التصريح، بل نسب هذه الصفات إلى القبة المضروبة على الموصوف، كناية عن نسبتها إلى الموصوف ذاته.
وقد يلجأ الشاعر إلى محاولة نسبة صفة إلى موصوف، عن طريق نفي صفة أخرى قبيحة، عن شيء له علاقة بالموصوف، كما في قول الشاعر:
يبيت بمنجاة عن اللؤم بيتها *** إذا ما بيوت بالملامة حلت
فالشاعر هنا يريد نسبة صفة العفاف إلى هذه المرأة وقد لجأ – في تحقيق ذلك – إلى نفي صفة اللؤم عن بيتها، فبيتها طاهر عفيف لا لؤم فيه، وهذا إيحاء بنسبة صفة العفة والطهارة إلى صاحبته، لأن البيت نفسه( بوصفه مبنى ) لا يوصف بأنه لئيم أو غير طاهر.
3 - التعريض:
التعريض مصاحبة للكناية في عامة كتب البلاغة، لما بين أسلوبه وأسلوب الكناية من تشابه، لأن كلا منهما يدل على معنيين أحدهما خفي مراد، وثانيهما ظاهر غير مراد غالبا، ولذا عرفوا التعريض بأنه" ما أشير به إلى غير المعنى بدلالة السياق" وعرفه آخرون بأنه "اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم، لا بالوضع الحقيقي أو المجازي. فالأسلوبان وإن تسابها فإن بينهما فرقا ينبع من طبيعة الدلالة في كل منهما، فعلى حين نجد الدلالة في أسلوب الكناية ترتد إلى التلازم العرفي بين المعنى القريب الظاهر والمعنى البعيد الخفي، نجد الدلالة في أسلوب التعريض لا تفهم إلا من الموقف أو المقام والإلمام به، مما عبروا عنه "بالسياق" أو المفهوم" في التعريفين السابقين، فلا تلازم بين المعنيين في أسلوب التعريض، على عكس الأسلوب الكنائي. ومن أمثلة التعريض قول الشاعر:
بني عمنا لا تكروا الشعر بعدما *** دفنتم بالصحراء الضمير القوافيا
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا *** بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
فالمعنى الظاهر من البيت الأول، هو نهي الشاعر أبناء عمومته عن تذكر الشعر، والمعنى الخفي هو التذكير بهزيمتهم في تلك الموقعة، التي دارت بينهما، وكانت الهزيمة من نصيب أبناء عمومته، ولا تلازم بين المعنيين، لأن المعنى الثاني لا يفهم إلا من خلال السياق والموقف.
ومن أسلوب التعريض جاء قوله تعالى فيما يحكيه سبحانه في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ }(الأنبياء 62 -63) فقول إبراهيم عليه السلام (بل فعله كبيرهم) نوع من التعريض بقومه لأنه لا يقصد حقيقة، أن كبير الأصنام هو الذي حطمها، ولكنه يشير من طرف خفي إلى أنه ( إبراهيم عليه السلام) هو الفاعل، وفي هذا نوع من السخرية بهم، والتهكم بمعتقداتهم الزائفة، حيث عبدوا أحجارا لا تستطيع الدفاع عن نفسها فضلا عن أن تضر أو تنفع.
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا *** بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
فالمعنى الظاهر من البيت الأول، هو نهي الشاعر أبناء عمومته عن تذكر الشعر، والمعنى الخفي هو التذكير بهزيمتهم في تلك الموقعة، التي دارت بينهما، وكانت الهزيمة من نصيب أبناء عمومته، ولا تلازم بين المعنيين، لأن المعنى الثاني لا يفهم إلا من خلال السياق والموقف.
ومن أسلوب التعريض جاء قوله تعالى فيما يحكيه سبحانه في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ }(الأنبياء 62 -63) فقول إبراهيم عليه السلام (بل فعله كبيرهم) نوع من التعريض بقومه لأنه لا يقصد حقيقة، أن كبير الأصنام هو الذي حطمها، ولكنه يشير من طرف خفي إلى أنه ( إبراهيم عليه السلام) هو الفاعل، وفي هذا نوع من السخرية بهم، والتهكم بمعتقداتهم الزائفة، حيث عبدوا أحجارا لا تستطيع الدفاع عن نفسها فضلا عن أن تضر أو تنفع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق