متحرك

الأربعاء، 14 ماي 2008

غزوات النبي صلى الله عليه وسلم:بنو قينقاع - بنو النضير - بنو قريظة - خيبر

بقلم الأستاذة: مليكة حفان
تقديم:
بعد أن انتصر المسلمون انتصارا ساحقا على المشركين في معركة بدر الكبرى، تقوت شوكتهم ، وقويت هيبتهم في نفوس العرب، إلا أن هدا الانتصار لم يكن ليثني قريشا وحلفاءها من القبائل عن الاستمرار في مواجهة الرسول صلى الله عليه و سلم و التصدي لدعوته ، و الاستعداد لأخد الثار لقتلاها السبعين الدين سقطوا في معركة بدر، وجلهم من زعمائها الكبار، ولم يكن اليهود أقل غيظا وحنقا من قريش، خاصة وأنهم كانوا يرون في هدا الانتصار الباهر الذي أحرزه المسلمون في معركة بدر ضربة قاصمة لكيانهم الديني و السياسي. فكثرت مؤامراتهم و دسائسهم ضد المسلمين، وستزداد هده المؤامرات و تتكاثف بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد حيث ذهبت ريحهم و زالت هيبتهم. فكاشف اليهود المسلمين بالعداء السافر، وطمعوا في أن يقضوا على دولة الإسلام ويستأصلوا شأفتها، فهمت طائفة منهم بقتل الرسول صلى الله عليه و سلم. و سنقف في هده المحاضرة مع غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة، وهي غزوة بني قينقاع وغزوة بني النضر وغزوة بني قريظة، وغزوة خيبر.
1 _غزوة بني قينقاع.
بنو قينقاع هم إحدى طوائف اليهود الثلاثة الذين نزلوا بالمدينة النبوية قبل الإسلام بزمن طويل، فرارا من اضطهاد الروم لهم ،و انتظارا للنبوة المحمدية المبشر بها في التوراة والإنجيل، ولما حل النبي صلى الله عليه و سلم، بالمدينة عاهدهم معاهدة سلم وحسن جوار كما أسلفنا الذكر. إلا أن اليهود لم يلبثوا أن نقضوا هده الوثيقة و بيتوا للمسلمين الغدر, فوالوا قريشا وغيرها من القبائل المعادية للمسلمين، وكانوا يتربصون بالرسول عليه السلام و أصحابه الدوائر. و لما انتصر المسلمون في معركة بدر، اشتد غيظهم وبغيهم وتوسعوا في استفزازاتهم للمسلمين، فكانوا يتعرضون بالأذى والسخرية لكل من ورد على سوقهم من المسلمين. وقد جمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع فوعظهم، و دعاهم إلى الرشد والهدى ،و حذرهم مغبة البغي و العدوان. روى ابن إسحاق في سيرته ما كان من أمر بني قينقاع مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال." كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق قينقاع ثم قال: "يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل ما نزل بقريش من النقمة واسلموا، فإنكم عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم.قالوا."يا محمد إنك ترى أنا كقومك؟ لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت فرصة، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس"(سيرة ابن هشام (47)) . فأنزل الله تعالى ردا على مقالتهم و تهديدهم قوله تعالى {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ{12} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران 12_13).
ورغم التحذير النبوي، والإنذار الإلهي ليهود بني قينقاع إلا أنهم استمروا في معاداة المسلمين وإثارة القلق والاضطراب داخل المدينة. جاء في سيرة ابن هشام أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها (جلب: ما يجلب إلى السوق للبيع) فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صانع بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على يهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، فكان هؤلاء اليهود أول من نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسالم(سيرة ابن هشام 2/47).
تدل هذه الحادثة على الحقد الدفين الذي يكنه اليهود للمسلمين، وبسببها نقض العهد والميثاق الذي كان بين بني قينقاع والمسلمين، فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن المدينة، فغزاهم في منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة، وحاصرهم في حيهم مدة نصف شهر، وبعد أن اشتد عليهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب، غادروا حصونهم، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا ليقتلوا بموجب بنود المعاهدة المعقودة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل تنفيذ الحكم فيهم، توسط في خلاصهم والعفو عنهم حليفهم عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين. جاء في سيرة ابن هشام: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن حتى نزلوا على حكمه. فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: يا محمد أحسن في موالي فلم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرر ثانية فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درعه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أرسلني وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال له: ويحك أرسلني، قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وهلك أكثرهم فيها (سيرة ابن هشام2/48).
وقد كشفت هذه الواقعة وما أعقبها من دفاع عبد الله بن أبي بن سلول أمر نفاق هذا الرجل، فقد اتضح من موقفه مع اليهود ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصطنع الإسلام نفاقا، وأنه في أعماق قلبه كان يضمر الشر للإسلام وأهله، غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامله رغم ذلك معاملة المسلم، فلم يخفر ذمته وأجابه إلى ما ألح في طلبه.
إن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب عبد الله بن أبي بن سلول تكشف عن حنكته صلى الله عليه وسلم السياسية وعبقريته الفذة، فمواجهة المسلمين للمنافقين في هذه الفترة الحرجة، وإثارة القلاقل والنزعات بين أفراد الدولة الإسلامية الفتية كان يشكل خطرا على الأمن الداخلي للدولة، وقد رأينا تكالب الأعداء عليها من كل الأنحاء، فقريش تتأهب لحرب جديدة ضد المسلمين لأخذ الثار لقتلاها، ولحفظ مكانتها بين العرب، وأخذ اليهود يجاهرون بالعداء للدولة الإسلامية، ويدبرون لها المكائد والمؤامرات، هناك أيضا الأعراب الذين يجاورون المدينة فقد غاضهم وجود دولة قوة في المنطقة تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فكانوا يتحينون الفرص للإغارة على المدينة المنورة وزعزعة استقرارها،كل هذه الأسباب جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يطلق سراح بني قينقاع، ويهبهم لعبد الله بن أبي بن سلول، ويأمرهم بالخروج من المدينة ولا يجاوروه بها.
وفي هذه الحادثة نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}(المائدة/51-52).
2 - غزوة بني النضير:
بنو النضير قوم من اليهود كانوا يقطنون بجوار المدينة، وكانوا حلفاء للخزرج، وقد وادعهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قدم المدينة مهاجرا، وكتب لهم بذلك كتابا، ولكن طبيعة الشر والغدر المتأصلة في اليهود، أبت إلا أن تحملهم على نقض ما كان بينهم وبين المسلمين من مواثيق وعهود، ويخرجوا عليهم بين الفينة والأخرى، بألوان من المكر والخديعة، والإيذاء وبعد وقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء ولكنهم بعد هزيمة المسلمين في معركة أحد تجرؤوا عليهم وجاهروهم بالعداوة.
أ - أحداث ما بعد غزوة بني النضير:
كان لهزيمة المسلمين في معركة أحد أثر سيء على سمعة الدولة الإسلامية، فزالت هيبتها التي قويت واشتدت بعد معركة بدر، وكثرت متاعب المسلمين داخل المدينة وخارجها، وجاهر اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر للمسلمين وهمت كل طائفة منهم أن تنال من الدولة الإسلامية، وتستأصل كيانها من داخل المدينة، ومن أهم الأحداث التي تعرض لها المسلمون بعد معركة أحد:
أولا: وقعة الرجيع:
وقعت في السنة الرابعة للهجرة وسببها أن وفدا من قبائل عضل والقارة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أن فيهم إسلاما، وأنهم بحاجة إلى من يعلمهم شؤون هذا الدين، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابة (حسب البخاري كانوا عشرة، وفي سيرة ابن إسحاق كانوا ستة نفر) وفيهم مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فلما كانوا بالرجيع، وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة، استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فقتلوا ثمانية منهم، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة، فباعوهما بمكة، وكانا قد قتلا من زعمائها يوم بدر، فأخذت قريش ثأرها منهما بقتلهما معا (سيرة ابن هشام 2/172).
ثانيا: مأساة بئر معونة:
وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرجيع، وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة، وسببها أن عامر بن مالك المشهور بلقب (ملاعب الأسنة) قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام، ولكنه لم يسلم ولم يظهر تجنبا عن الإسلام، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث معه بعضا من أصحابه إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام ويعلمونهم أمر هذا الدين، وأعطاهم عامر جواره وحمايته بعدما لمس خوفا من الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه من غدر نجد بهم، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين وفضلائهم وقرائهم، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة ( وهي أرض بين بني عامر وحرة بني سليم) ثم بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن طفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه وعدا عليه فقتله، ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر يستعديهم على بقية الدعاة فأبوا أن يجيبوه لأجل جوار عامر بن مالك، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم، من عصية ورعل وذكران فأجابوه، فقتلوا المسلمين عن آخرهم، وكان في سرح الدعاة اثنان لم يشهدا هذه الموقعة الغادرة، أحدهما عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر، ولم يعرفا بخيانة عامر بن الطفيل إلا فيما بعد، فأقبلا يدافعان عن إخوانهما فقتل المنذر بن عقبة، وأفلت عمرو بن أمية، وفي طريقه إلى المدينة لقي رجلين من بني عامر فقتلهما ثأرا لشهداء بئر معونة، وكان القتيلان معاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم بذلك عمرو ولما وصل إلى المدينة وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالحادث، قال عليه الصلاة والسلام: لقد قتلت قتيلين لأدينهما.
وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم، لمقتل هؤلاء الدعاة الصالحين من أصحابه ولمقتل الصحابة العشر في وقعة الرجيع تأثرا شديدا وتغلب عليه الحزن والألم وبقي شهرا يقنت في صلاة الصبح يدعو على قبائل سليم: رعل وذكوان وبنو لحيان وعصية ( سيرة ابن هشام 2/173) وخبر قنوت الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه على قبائل بني سليم رواه البخاري ومسلم).
ب - خيانة بني النضير:
كانت المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسلمين واليهود تقضي بأن يدي كل من الطرفين ما لزمه من دية شرعية (جاء في المعاهدة: وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعلي إلى بني النضير يطالبهم بالإسهام في دية العامريين، فانتهى إلى ديارهم، وذكر لهم ما جاءهم من أجله، فأبدوا ارتياحا واستعدادا وأنزلوه مع أصحابه منزلا حسنا في ظل جدار من بيت أحدهم، وإذا بهم يتآمرون على قتله صلى الله عليه وسلم، بإلقاء صخرة من ظهر ذلك البيت، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بما هموا به من قتل، فقام عليه السلام على الفور وكأنه يقضي حاجة، فدخل المدينة ولحقه أصحابه، ثم أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى يهود بني النضير محمد بن سلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده لنقضهم العهد الذي بينهم وبينه، وأمهلهم عشرة أيام للخروج، ولكن عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين أرسل إليهم ينهاهم عن الخروج ويعدهم بإرسال ألفين من جماعته يدافعون عنهم، فعدلوا عن الخروج، وتحصنوا في حصونهم، وأرسل رئيسهم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:إنا لا نخرج من ديارنا فافعل ما بدا لك)(سيرة ابن هشام:2/190-191) يقول صفي الدين المباركفوري معلقا على هذا الحدث:" ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة للمسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير ـ بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ مهما تكن النتائج"(الرحيق المختوم، ص: 210)‏.‏
بعد أن رفض يهود بني النضير الخروج من المدينة، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب عليهم، وخرج إليهم برجاله، فالتجأ بنو النضير إلى حصونهم وتحصنوا فيها وأخذوا يرمون المسلمين بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونا لهم في ذلك فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }(الحشر/5 ).
وخان عبد الله بن أبي بن سلول بني النضير ولم يخرج لمساعدتهم، ولم يمدهم بما وعدهم من الرجال والسلاح، واعتزلهم حلفاؤهم من غطفان ويهود بني قريظة، وقد استمر حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم خمسة عشر يوما، ثم نزلوا على حكمه، وانصاعوا لأمره بالخروج من المدينة، واشترط الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أن لا يخرجوا معهم السلاح، وأن يخرجوا معهم من أموالهم وأغراضهم ما حملته الإبل، ودماؤهم مصونة لا يسفك منها قطرة، فأخذوا كل شيء يستطيعون حمله، وهدموا بيوتهم كيلا يستفيد منها المسلمون، قال ابن هشام: " فكان الرجل منهم يهدم بيته على نجاف بابه (أي عتبته) فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به، وتفرقوا ما بين خيبر والشام، ولم يسلم منهم إلا رجلان: يامين بن عمير كعب بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب فأحرزا أموالهما" (سيرة ابن هشام:2/192) وقبض الرسول صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعا وثلاثمائة وأربعين سيفا، وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يحرز عليها المسلمون بحرب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة إذ كانوا يعانون من حاجة وفقر شديد، إلا أنه أعطى أبا دحانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما.
كانت غزوة بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة، وقد نزلت في هذه الغزوة سورة الحشر، ومنه قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}(الحشر/2-3).
3 - غزوة بني قريظة:
بنو قريظة قوم من اليهود، كانوا يسكنون حول المدينة النبوية، وكانوا حلفاء للأوس وقد وادعهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قدم المدينة، لكنهم نقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وانضموا إلى معسكر المشركين، إبان معركة الأحزاب وقد وقعت هذه الغزوة في السنة الخامسة عقب غزوة الأحزاب وقامت أيضا على غدر من اليهود وكيدهم للمسلمين. جاء في سيرة ابن هشام وخر ج حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي فأغراه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: جئت بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسبان من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بذنب نقمي، إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، ويحك يا حيي فدعني وما أن عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. ولم يزل حيي بكعب حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد، وانتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل
سعد بن معاذ بن النعمان، وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة، ليتحققوا من الخبر وأوصاهم أن يلحنوا بإشارة يفهمها إذا كان الخبر حقا، ولا يفتوا في أعضاد الناس وإن كان كذبا فليجهزوا به للناس، فلما استطلعوا الخبر ورأوه حقا عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: عضل والقارة; أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين. سيرة ابن هشام، 2/220-222.
كان الوقت الذي اختارت فيه بنو قريظة الغدر بالمسلمين ونكث عهدها معهم، والانضمام إلى معسكر المشركين المحاصرين للمدينة وقتا حرجا بالنسبة للمسلمين. فقريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة، وقبائل غطفان (فزارة وبنو مرة وبنو أشجع وبنو أسد) قد خرجوا في جيش عرمرم يفوق عشرة آلاف مقاتل يبغون القضاء على الإسلام والمسلمين، فحاصروا المدينة حصارا شديدا استمر قرابة شهر من الزمن. وكان هذا الغدر من بني قريظة أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين بني قريظة، شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، فبينما كان أمامهم جيش عرمرم، لم يكونوا يستطيعون الانحراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} ( الأحزاب /10-11).( الرحيق المختوم، ص:219-220).
وبعد أن انفضت الأحزاب عن المدينة ونصر الله رسوله والمسلمين، وظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما انطوت عليه نفوس بني قريظة من اللؤم والغدر والتحزب مع قريش وحلفائها، رأي عليه الصلاة والسلام، أن يؤدب هؤلاء الخائنين الغادرين ويطهر منهم المدينة مقر جهاده ودعوته حتى لا تواتيهم الظروف مرة أخرى فيخرجوا على المسلمين بألوان جديدة من الغدر والخيانة، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رجع إلى المدينة يوم الخندق، ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه الصلاة السلام، فقال قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه، فاخرج إليهم، قال فالي أين؟ قال ههنا.وأشار إلى بني قريظة، متفق عليه واللفظ للبخاري، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤذنا فأذن في الناس، من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر، إلا في بني قريظة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى لواء الجيش علي بن أبي طالب، وخرج المسلمون في جيش عدد جنوده ثلاثة آلاف مقاتل ومعهم ستة وثلاثون فرسا، فنزلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم حصارا شديدا استمر خمسا وعشرين يوما.
روى ابن هشام أنه بعد أن اشتد الحصار على بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، عرض عليهم رئيسهم، كعب بن أسد ثلاثة أمور،فقال: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم قالوا فما هي: قال نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوا لله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا لا نفارق حكم التوراة، أبدا، قال فلهم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، قالوا فما ذنب المساكين؟ قال فإن أبيتم هذه أيضا فإن الليلة ليلة السبت، وأنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب منهم غرة، فأبوا ذلك أيضا" سيرة ابن هشام 2/225)
ولم يبق أمام بني قريظة بعد رد هذه الأمور الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن سلمة الأنصاري وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس فطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يحسن في مواليهم من بني قريظة، كما سبق وأحسن إلى يهود بني قينقاع، حلفاء الخزرج، وأن يطلق سراحهم، فأوكل الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم على بني قريظة إلى سعد بن معاد سيد الأوس، وكان قد أصيب بسهم في الخندق، فكان يداوى في خيمة بالمدينة، وأرسل إليه بذلك، فلما آتى دنا من مقر وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار، قوموا إلى سيدكم، ثم قال إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال سعد: نقتل مقاتليهم ونسبي ذريتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضيت بحكم الله تعالى... ثم استنزل اليهود من حصونهم، فسيقوا إلى خنادق المدينة فقتل مقاتلوهم أي رجالهم وسبي ذراريهم وكان في جملة من سيق إلى القتل فقتل حيي بن أخطب الذي كان قد سعى حتى أقنع بني قريظة بالغدر ونقض العهد، سيرة ابن هشام2/225.
وفي هذه الغزوة نزل قوله تعالى {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }(الأحزاب/26-27).
4- غزوة خيبر:
خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع يسكنها اليهود وتقع على بعد مائة ميل شمال المدينة جهة الشام، وكانت مركز تجمع كبير لأعداء الدولة الإسلامية، فبنو النضير بعد إجلائهم من المدينة ذهبوا إلى خيبر واستقروا بها ثم شرعوا في التآمر على الإسلام والمسلمين، فاتصلوا بقريش وحلفائها، من قبائل تهامة وكنانة، واتصلوا بقبائل غطفان: فزارة وبنو أشجع وبنو أسد.
ثم حرضوا يهود بني قريظة على الغدر والخيانة، والتواطؤ مع قريش وغطفان على حرب المسلمين في معركة الأحزاب.
وقعت هذه المعركة في السنة السابعة من الهجرة، وإنما أبطأ المسلمون في غزو يهود خيبر.لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم، وهي (قريش) كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين واقترب لهم يوم الحساب (الرحيق المختوم ص:258). إذن بعد أن أمن النبي صلى الله عليه وسلم جانب قريش بالصلح الذي تم في الحديبية قرر غزو يهود خيبر، وخرج إليهم في ألف وأربعمائة مقاتل منهم مائتا فارس، وكان لخيبر حصون منيعة وكان فيها ما يقرب من عشرة آلاف مقاتل، ولهم عدد كبير من السلاح والعتاد، ثم ابتدأت المعارك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل خيبر الذين تحصنوا في حصونهم، ودار بينهم وبين المسلمين قتال مرير تمكن المسلمون بعده من فتح هذه الحصون، وغنموا كل ما فيها من الأموال.
أما حصنا الوطيح والسلالم، فقد حاصرهما الرسول صلى الله عليه وسلم، بضع عشرة ليلة، حتى إذا أيقن من فيها بالهلاك، سألوه صلى الله عليه وسلم أن تبقى خيبر تحت أيديهم يعملون فيها ويزرعونها لأنهم أعرف بأراضيهم وأعمر لها، ولهم شطر ما يخرج منها. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم على أنا إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم (سيرة ابن هشام.2/392).
وبعد فتح خيبر، قذف الله الرعب في قلوب اليهود، فدخلت بعض القبائل اليهودية في معاهدة صلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وصالحوه بمثل ما صالح أهل خيبر المسلمين على النصف من أراضيهم وأن يتركوا لهم الأرض والنخل بأيديهم، ومن هذه القبائل (فدك ووادي القرى ويهود تيماء).
وبقي الوضع في خيبر وفدك وتيماء ووادي القرى كما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، يزرعون الأرض على النصف من نتاجها إلى أن كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقتلوا أحد الأنصار، وعدوا على عبد الله بن عمر، فقدعت يداه فقال رضي الله عنه للناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد عامل يهود خيبر على أن نخرجهم إذا شئنا وقد عدوا على عبد الله بن عمر فقدعوا يديه كما قد بلغكم مع عدوهم على الأنصاري قبله، لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا عدو غيرهم فمن كان له ماله بخيبر فليلحق به فإني مخرج يهود.
وهكذا تم إخراج اليهود من جزيرة العرب، (ولولا بغيهم وعدوانهم واستكبارهم على الحق، لما طردوا ولما اخرجوا، ولكن الأرض يرثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين (سعيد رمضان البوطي، فقه السيرة ص: 263).

ليست هناك تعليقات:

أهداف منتدى الفصيح : توسيع دائرة التواصل بيننا وبين الباحثين، تقريب المعلومة من الطلبة على وجه الخصوص،وجعل المنتدى جسرا لمواقع وموسوعات علمية متنوعة، ونقل الخبر، عبر ربط المنتدى بأهم الجرائد والقنوات العالمية.
Google
دليل العرب الشامل الجزيرة نت سوالف المنتديات

أخبار الجزيرة