متحرك

الاثنين، 5 ماي 2008

معركة بدر الكبرى

بقلم الأستاذة: مليكة حفان
تقديم:
بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتأسيس دولة الإسلام، أصبح المسلمون يتعرضون لتهديدات واستفزازات متعددة من قبل قريش وحلفائها من قبائل العرب ومن اليهود، فقريش ترى في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين أصبحت لهم قوة عسكرية لا يستهان بها، خطرا يهدد كيانها الاقتصادي وزعامتها الدينية والسياسية، في شبه الجزيرة العربية، ولذلك كثرت مؤامراتها وتهديداتها للقضاء على الإسلام والمسلمين، أما اليهود فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على أن يقيم معهم علاقات سلم وأن يؤمنهم على دينهم وأموالهم منذ استقراره بالمدينة، وكتب لهم بذلك كتابا (معاهدة اليهود) ولكن طبيعة اليهود الغادرة والماكرة، حالت دون ذلك فما كاد الرسول صلى الله عليه وسلم، يستقر بالمدينة وتتم له زعامة المهاجرين والأنصار، حتى خرجوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بألوان من الغدر والخيانة.
في ظل هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين في المدينة، أذن الله للمؤمنين بالقتال، وذلك في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ }(الحج/39 – 40) وجاء هذا الإذن بالقتال ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل، وإقامة شعائر الله، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }(الحج/41).
بعد نزول الإذن بالقتال بدأت المعارك الحربية بين المسلمين وقريش، ومن والاها من قبائل العرب من جهة، وبين المسلمين واليهود من جهة أخرى، وقد اتفق المؤرخون المسلمون على أن يسموا كل معركة وقعت بين المسلمين والمشركين، وحضرها النبي صلى الله عليه وسلم غزوة، وكل مناوشة حصلت بين الفريقين، ولم يحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم سرية، وقد بلغ عدد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، ستا وعشرين غزوة، وبلغ عدد سراياه، ثمانية وثلاثين سرية، وسنقتصر في دراستنا للمعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم، على أشهر غزواته وهي إحدى عشرة غزوة، وسنبدأ بمعركة بدر الكبرى.
1 - الغزوات والسرايا قبل معركة بدر:
أ – الهدف من هذه الغزوات والسرايا:
عملا بالإذن الإلهي بالقتال، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم، يبعث بالسرايا ويقوم بمجموعة من الغزوات رغبة في تحقيق الأهداف التالية: أولا: بسط سيطرة المسلمين على طريق قريش التجارية المؤدية من مكة إلى الشام، بغية إضعاف تجارتها، وضرب قوتها الاقتصادية، لتمتنع عن قتال المسلمين، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين بمكة، ويصير المؤمنون أحرارا في إبلاغ رسالة الله، في ربوع شبه الجزيرة العربية.
ثانيا: الاستيلاء على قوافل قريش التجارية للظفر بأموالهم، التي هي حق مشروع للمسلمين، فقريش قد أجبرنهم على ترك مدينتهم مكة، وترك دورهم وأراضيهم وأموالهم واستولت عليها، وقد سبقت غزوة بدر، سبع محاولات لاعتراض عير قريش، وكل الذين كانوا يخرجون فيها من المهاجرين فحسب، ولم يرسل فيها أنصاري واحد.
ثالثا: عقد تحالفات مع القبائل المجاورة للطريق التجارية الرابطة بين مكة والشام.
رابعا: إشعار مشركي يثرب ويهودها، وأعراب البادية الضاربين حولها، بأن المسلمين قد تخلصوا من ضعفهم القديم، وأصبحت لهم دولة لها قوتها العسكرية والسياسية.
ب – السرايا والغزوات:
أولا: سرية سيف البحر، في السنة الأولى للهجرة، وكان على رأسها حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
ثانيا: سرية رابغ، في السنة الأولى للهجرة، وكان على رأسها عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه.
ثالثا: سرية الخرار، في السنة الأولى للهجرة، وكان على رأسها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
رابعا: غزوة الأبواء أو ودان، في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهي أول غزوة غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حامل اللواء في هذه الغزوة، حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
خامسا: غزوة بواط، في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول صلى الله وسلم عليه بنفسه.
سادسا: غزوة سفوان، في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وتسمى هذه الغزوة بدر الأولى.
سابعا: غزوة ذي العشيرة في السنة الثانية للهجرة، وقادها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه.
ثامنا: سرية نخلة في شهر رجب، في السنة الثانية للهجرة، وكان على رأسها عبد الله بن جحش. وقد حاولت هذه السرية اعتراض قافلة لقريش، تحمل زبيبا وأدما، وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل بنا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان، مولى بن المغيرة. وقد تواجه الفريقان فقتل المسلمون عمرو بن الحضرمي، وأسروا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان، واستولوا على العير، وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ما قاموا به من قتل في الشهر الحرام، وأوقف التصرف في العير والأسيرين حتى نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }(البقرة217) وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه.
2 – غزوة بدر الكبرى:
أ – سبب الغزوة:
وقعت غزوة بدر الأولى في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم، ندب أصحابه للتعرض لقافلة لقريش، كان يقودها أبو سفيان بن حرب، عائدة من الشام إلى مكة، مقابل ما تركوا من أموالهم بمكة، ولتوجيه ضربة قاصمة لقوة قريش الاقتصادية والسياسية، وقد كانت هذه القافلة محملة بثروات طائلة لأهل مكة (بضائع مختلفة يحملها ألف بعير، وثروة تقدر بخمسين ألف دينار ذهبي).
لما علم أبو سفيان بعزم المسلمين على الخروج لأخذ العير، أرسل (ضمضم بن عمرو الغفاري) إلى مكة ليخبر قريشا بالخبر، ويستنفرهم للخروج للدفاع عن أموالهم وحمايتها. فخرجت قريش في نحو ألف مقاتل، منهم ستمائة دارع (لابس للدرع) ومائة فارس، وسبعمائة بعير، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين. وقد استطاع أبو سفيان أن يفلت بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المسلمين، فهمَّ جيش قريش بالرجوع إلى مكة، إلا أن أبا جهل الذي كان يقود الجيش رفض العودة، وأصر على المضي إلى بدر، حيث كان للعرب هناك سوق يجتمعون فيه كل عام ثلاثة أيام، وكان مما قال: "والله لا نرجع حتى نقدم بدرا، فنقيم بها، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك" (ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد: 3/174).
أما المسلمون فكان عددهم ثلاث مائة وأربعة عشر رجلا أكثرهم من الأنصار، وكان معهم سبعون جملا يتعاقب على الواحد منها اثنان أو ثلاثة من الصحابة، وفرسان وهو عتاد متواضع قياسا لما يمتلكه جيش قريش. فالمسلمون لم يكونوا يتوقعون لقاء مسلحا مع قريش، لذلك لم يأخذوا أهبتهم الكاملة من السلاح والتأهب، "غير أن الله تبارك وتعالى، أراد لعباده غنيمة ونصرا أعظم، وعملا أشرف، وأكثر انسجاما، مع الغاية التي ينبغي أن يستهدفها المسلم في حياته كلها، فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها، وأبدلهم بها نفيرا لم يكونوا يتوقعونه) (فقه السيرة، رمضان سعيد البوطي، ص: 170).
وفي هذا التدبير الإلهي نزل قوله تعالى:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }(الأنفال/7).
بعد أن بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خبر نجاة القافلة، وخبر مسير قريش إلى قتال المسلمين، استشار أصحابه في خوض المعركة، فأشار عليه المهاجرون بخوضها، وكان منهم المقداد بن عمرو الذي قال "يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سورت بنا إلى برك الغماد (موقع من وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر) لجادلنا معك من دونه حتى نبلغه).
وأحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يعرف رأي الأنصار أيضا لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن شروط بيعة العقبة التي كانت بينه وبين الأنصار، لم تتضمن نصرتهم، له خارج المدينة، وإنما داخلها فقط، فقال بعد سماع رأي المهاجرين " أشيروا علي أيها الناس" وإنما يريد الأنصار. ولم تكن رغبة الأنصار في الجهاد والدفاع عن دينهم ودولتهم تقل عن رغبة المهاجرين، فكان جوابهم على لسان سعد بن معاذ " لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لمل أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك".
فسر الرسول صلى الله عليه وسلم برأي المهاجرين الأنصار، وعزمهم على مواجهة قريش، فقال:"سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنني الآن أنظر مصارع القوم" (سيرة ابن هشام 1/205).
ب – أسباب النصر:
للنصر في كل حرب أسباب فعالة، مثل الإعداد والتدريب وتوفير عنصر المفاجأة، واختيار الزمان والمكان المناسبين لحدوث المعركة، إلى غير ذلك من الأسباب. ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على الأخذ بمجموعة من الأسباب والتدابير الحربية كانت سببا في انتصارهم، في هذه المعركة، وهزيمة جيش قريش هزيمة ساحقة، وتتجلى في الأمور الآتية:
أولا: إعداد جيش المسلمين إعدادا جيدا يمكنه من خوض المعركة، ومواجهة العدو ببسالة وقوة، حيث قسم الرسول صلى الله عليه وسلم، جيش المسلمين إلى كتيبتين: كتيبة المهاجرين أعطى لواءها لعلي بن أبي طالب، وكتيبة الأنصار أعطى لواءها لسعد بن معاذ، وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو، وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش، وجعل على المشاة قيس بن أبي صعصة، أما القيادة العليا للجيش فكانت له صلى الله عليه وسلم.
ولما التقى الجيشان، عدل الرسول صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه، وأصدر أوامره إلى أصحابه قائلا: "إذا أكثروكم -يعني كثروكم – فارموهم واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم" (سنن أبي داود، في سل السيوف عن اللقاء:2/13)
ثانيا: بعث العيون والمراقبين لتحسس أخبار العدو، ومعرفة خططهم، وأحوالهم وما هم عليه من قوة، في العدد والعدة، وقد جاء في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزل قريبا من بدر، بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص يتحسسون أخبار جيش العدو، ويرقبون تحركاته، فنزلوا على تل قريب من ماء بدر، فوجدوا غلامين يسقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض، وجاءوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسألهما عن أخبار قريش، فقالا هما وراء هذا الكتيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كم القوم؟" فقالا: كثير. قال فما عدتهم؟ قالا: لا ندري. فقال: "كم ينحرون كل يوم من الإبل؟ قالا: ما بين التسعة إلى العشرة فقال: "إذا القوم ما بين التسعمائة والألف" ثم قال لهما:" فمن فيهم من أشراف قريش" قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام ، والنضر بن الحارث، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف...فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وقال:"هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها".
ثالثا: احتياط جيش المسلمين لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، رغبة في نجاح المعركة والدعوة الإسلامية، لأن في حياته صلى الله عليه وسلم حياة الدعوة، فقام المسلمون ببناء العريش للرسول صلى الله عليه وسلم، وراء صفوف المسلمين، على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة، وقد أشار عليهم بهذا الرأي سعد بن معاذ قائلا:"يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه نعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك : فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير. ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه ". (الروض الأنف، 3/63)
رابعا: ومن استعداداته صلى الله عليه وسلم، لخوض هذه المعركة، اختيار الموقع المناسب لاستقرار جيش المسلمين، حيث أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الخباب بن المنذر ،بعد أن نزل أدنى ماء من بدر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدني ماء من القوم فننزله، ثم نعور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي ، ثم أمر بتنفيذ خطته، فلم يجيء نصف الليل، حتى تحول جيش المسلمين إلى المكان الذي أشار إليه الخباب بن المنذر وامتلكوا مواقع الماء.
وإلى جانب هذه الأسباب كانت هناك أسباب أخرى وراء انتصار المسلمين في هذه المعركة نذكر منها:
أولا: التضرع إلى الله تعالى، وشدة الاستغاثة به، يقوله الله تعالى في كتابه العزيز {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }(الأنفال9) فالنبي صلى الله عليه وسلم كان واثقا من النصر في هذه المعركة، مطمئنا إلى وعد الله تعالى له، إذ قال لأصحابه كما أسلفنا: "سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بيده إلى أماكن متفرقة من الأرض، ويقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله"، ولقد وقع الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فما تزحزح أحد في مقتله عن موضع يده، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح الذي رووه مسلم عن أنس.
ومع ذلك فقد بات الرسول صلى الله عليه وسلم، طوال ليلة المعركة يجأر إلى الله تعالى، داعيا ومتضرعا يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم، لا تعبد بعدها أبدا" ويقول أيضا " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك"،(ابن القيم،زاد المعاد:ص:3/ 176) وبالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في الابتهال، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأشفق عليه أبو بكر الصديق فقال: "يا رسول الله أبشر، فوالذي نفسي بيده، لينجزن الله لك ما وعدك" (ابن القيم،زاد المعاد:ص:3/ 176) وقد عقب سعيد رمضان البوطي على هذا الموقف، وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تضرع شديد إلى ربه، رغم اطمئنانه بنصر الله له ولأصحابه، بكلاكم جميل إذ يقول: "إن اطمئنان النبي صلى الله عليه وسلم، وإيمانه بالنصر، إنما كان تصديقا منه للوعد الذي وعد به رسوله، ولا شك أن الله لا يخلف الميعاد، وربما أوحي إليه بخبر النصر في تلك الموقعة.أما الاستغراق في التضرع والدعاء وبسط الكف إلى السماء، فتلك هي وظيفة العبودية التي خلق من أجلها الإنسان، وذلك هو ثمن النصر في كل حال" (فقه السيرة /174)
ثانيا: الإمداد بالملائكة: انطوت غزوة بدر الكبرى على معجزة من أعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين، فقد أمد الله المسلمين فيها بملائكة يقاتلون معهم، وهذه حقيقة ثبتت بدلالة صريحة من الكتاب والسنة النبوية الشريفة الصحيحة، فقد أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله" {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }(الأنفال9). وروى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم غفى إغفاءة في العريش، ثم انتبه فقال:" أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع" إن إرداف الملائكة بعضها وتتابعها بالمسير إلى المؤمنين للقتال معهم، إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم، وتبشير لهم بنصر الله لهم على أعدائهم في أول تجربة قتال، خاضها المسلمون ضد الشرك والظلم والطغيان، وأما النصر فهو من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك، فهم جنود الله تعالى ينصر بهم وبغيرهم، ومن أجل توضيح هذه الحقيقة، قال الله تعالى مبينا سبب نزول الملائكة: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(الأنفال)/10).
ثالثا: نزول المطر، أنزل الله عز وجل ليلة المعركة مطرا طهر به المسلمين وربط به على قلوبهم، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، مما أتاح للمسلمين حركة سريعة فوقه، لخوض غمار المعركة، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا الأمر في قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ }(الأنفال/11).
3- قضية الأسرى:
بعد أن أتم الله نصره لرسوله وللمؤمنين، وهزموا جيش قريش هزيمة ساحقة، فقتلوا سبعين رجلا، عامتهم من القادة والزعماء والصناديد، وأسروا سبعين آخري، استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسرى، أيقتلون أم يفادون بمال يستعان به على مواصلة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فكان رأي أبي بكر الصديق، أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين فدية من المال، مقابل إطلاق سراح أسراهم، تكون قوة للمسلمين، وأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتلهم، لأنهم أئمة الكفر وصناديده، فقال "أرى أن تمكنني من فلان – قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم" أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر الصديق فعفا عنهم، وقبل الفداء رغبة منه أن يعوض المهاجرين، ما ضاع منهم من أموالهم التي تركوها في مكة، وأن يخفف عنهم ما يعانونه من شدة الفقر والحاجة، وأن يفسح المجال للأسرى لعل الله يلقي في قلوبهم الهداية، ومن هنا نفهم سر ميل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فداء الأسرى يوم بدر. فقد كان يرجو أن يهديهم الله، وأن تكون لهم ذرية من بعدهم تعبد الله وتدعو إليه" (السيرة النبوية، دروس وعبر، مصطفى السباعي، ص:103) فأنزل الله تعالى آيات يعاتب فيها رسوله صلى الله عليه وسلم قائلا: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ،فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(الأنفال67-68-69).
وبهذا العتاب الإلهي، نعلم أن القتل للأسرى في هذه المعركة، كان خيرا من المفاداة، لأنها أول معركة انتصر فيها المسلمون على كفار قريش، بعد سنين طويلة من الصبر والمعاناة، وكانت مصلحة الدولة الإسلامية، تقتضي إرهاب أعداء الله والقضاء على رؤوس الفتنة والضلالة، ولو قتل الأسرى يوم بدر لضعفت قريش، وكسرت شوكتها بموت زعمائها، ومؤججي نار الفتنة ضد المؤمنين، وبعد هذه المعركة خير الله تعالى رسوله بين المن ( إطلاق سراح الأسرى دون مقابل وبين الفداء بمقابل، وبين القتل) فقال تعالى {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }(محمد/4).هذه هي معركة بدر التي فصلت بين عهد الكفر والإيمان، فسماها الله تعالى في كتابه العزيز "يوم الفرقان" لأنه فرق بها بين الحق والباطل فقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأنفال/41-42). وبعد هذه المعركة قويت شوكة المسلمين، وبدأ الإسلام مرحلة جديدة من السيادة والاستعلاء والقوة، وصدق الله العظيم إذ قال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }(الروم/47)

ليست هناك تعليقات:

أهداف منتدى الفصيح : توسيع دائرة التواصل بيننا وبين الباحثين، تقريب المعلومة من الطلبة على وجه الخصوص،وجعل المنتدى جسرا لمواقع وموسوعات علمية متنوعة، ونقل الخبر، عبر ربط المنتدى بأهم الجرائد والقنوات العالمية.
Google
دليل العرب الشامل الجزيرة نت سوالف المنتديات

أخبار الجزيرة