متحرك

الاثنين، 21 أبريل 2008

مدخل للسيرة النبوية

بقلم الأستاذة مليكة حفان

1- السيرة النبوية: التعريف والأهداف
أ - تعريف السيرة النبوية:
- السيرة لغة تعني السنة والطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره، يقال فلان له سيرة حسنة، يقول تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى }(طه21).
- السيرة اصطلاحا: تعني قصة الحياة وتاريخها، وكتبها تسمى كتب السير، يقال قرأت سيرة فلان: أي تاريخ حياته. والسيرة النبوية تعني مجموع ما ورد لنا من وقائع حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفاته الخُلقية والخَلقية مضافا إليها غزواته وسراياه.
ب‌- أهداف دراسة السيرة النبوية:
- إن تتبع تلك السيرة العطرة والوقوف على أحداثها ووقائعها وتناولها بالدراسة والتحقيق له أهداف عديدة يرمي لها الباحثون، ويسعى إليها الدارسون، ويضعها المسلم نصب عينيه، وهو يقلب السيرة بين يديه، وذلك ما يجعل أهداف السيرة النبوية مميزة عن غيرها، فلا تكون دراستها من أجل المتعة فحسب، وإنما لأجل غايات أسمى، ومن هذه الأهداف:
أولا - معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة شاملة:من خلال معرفة مولده ونشأته ونسبه، ومعرفة هديه صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها، وهديه في المنام والطعام والشراب والنكاح، وهديه في السلم والحرب، وفي التعامل مع الموافقين والمخالفين، وهديه في التربية والتعليم والدعوة والإرشاد، منذ بعثته إلى وفاته، تلك المعرفة التي تورث محبته والقرب منه.
ثانيا - أخذ الدروس والعبر التي تضيء للمسلم الطريق وتوصله إلى الأمان، تلك الدروس التي تؤخذ من سيرته صلى الله عليه وسلم، في جميع الأحوال، ولجميع الفئات.
ثالثا - الوقوف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام ومبادئه التي تضمنتها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق.
رابعا - السيرة النبوية تعين على فهم كتاب الله وتذوق روحه ومقاصده، فكثير من آيات القرآن الكريم إنما تفسرها وتجليها الأحداث التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسا- نتعرف من خلال السيرة النبوية، على جيل الصحابة الفريد الذي كان صدى للقرآن الكريم وكان التطبيق العملي لحكم الله أمرا ونهيا.
2 – أهم مصادر السيرة النبوية:
مصادر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة منها:
أ- القرآن الكريم:
وهو كتاب الله ووحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأن القرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا حسب الأحوال والحوادث، فإن هذا الكتاب الكريم كان تطبيقا عمليا لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بدء بدعوته إلى أن انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى. ففيه بيان واضح للعقيدة والشريعة والأخلاق، ويتضمن وصفا للعديد من الأحداث والغزوات، وتصويرا للصراع الفكري والمادي بين الإسلام وخصومه.
ب- كتب الحديث: يلي القرآن في الأهمية كتب الحديث المتنوعة بين الكتب المرتبة على المسانيد والكتب المرتبة على الأبواب الفقهية، فهذه الكتب تقدم مادة واسعة، وتحتوي على تفاصيل كثيرة متصلة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية. وتمتاز المصادر الحديثية بكونها أوثق رواة وأدق متونا من كتب السيرة المتخصصة. وينطلق هذا الوصف بدقة على كتب السنة وفي مقدمتها صحيح البخاري وصحيح مسلم، ففي صحيح البخاري ومسلم نجد أبوابا في فضائل الصحابة ، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونجد أبوابا في المغازي وأبوابا في معاملته صلى الله عليه وسلم للكفار، وجهاده لهم، ففي كتب الحديث إذن من التفصيلات ما قد لا نجده في غيرها من المصادر الأخرى.
ج– كتب السيرة:
تعد سيرة ابن إسحاق ( تـ 150هـ أو 151هـ) أوثق كتب السيرة المتخصصة التي وصلت إلينا بتهذيب ابن هشام، وعرفت عند الناس جميعا باسم : سيرة ابن هشام وفيها اعتماد كامل على سيرة ابن إسحاق مع بعض الحذف والاختصار في بعض المواضع، وينبغي أن يعلم أن سيرة ابن هشام، يجب التأكد من أحداثها تصحيحا وتضعيفا، فليس كل ما فيها صحيح، وإنما يجب مقارنتها بغيرها من السير وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لما فيها من روايات ضعيفة، وخاصة ما يتعلق بعهد الجاهلية، وبحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وولادته ونحوها، لكن ابن إسحاق ثقة في المغازي ، فإذا لم نجد ما يعارضه من الأحاديث الصحيحة فإننا نعتمد ما قاله.
ومن كتب السيرة أيضا: الطبقات الكبرى لمؤلفه محمد بن سعد (تـ 230هـ) وفيه تفصيلات بالأسانيد لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن كتب السيرة أيضا ( الدرر في اختصار المغازي والسير) لابن عبد البر القرطبي المتوفى سنة (463 هـ) وقد تابع فيه ابن إسحاق، لكنه رحمه الله تعالى زاد على ذلك بروايات من الحديث النبوي من صحيح البخاري ومن سنن أبي داود ومن غيرها من الكتب.
د– كتب دلائل النبوة والشمائل المحمدية:
وهي كتب فيما شرح لدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، له معجزة هي القرآن الكريم، وله عليه الصلاة والسلام معجزات أخرى كثيرة، وقد عني العلماء بذكر تفاصيل هذه المعجزات لأنها دالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء شرح هذه الدلائل شرح لكثير من أحداث السيرة النبوية ومن أهم كتب الدلائل كتاب: دلائل النبوة للفريابي وكتاب دلائل النبوة لابي نعيم الأصبهاني وكتاب دلائل النبوة للبيهقي.
أما كتب الشمائل المحمدية فهي كتب تشرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه وصفاته الخلقية والخلقية، ومن أهم الكتب في هذا الباب كتاب الشمائل المحمدية للترميدي.
هـ- كتب تراجم الصحابة:
وهي كتب ألفت عن الصحابة وترجمت لهم وفيها تفاصيل عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني ، وكتاب أسد الغابة لعز الدين بن الأثير، وكتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني.
و– كتب التاريخ:
من المصادر لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يستفاد منها كتب التاريخ، مثل تاريخ الطبري، وفيه من التفاصيل عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، وكتاب البداية والنهاية لابن كثير الذي يحتوي على سيرة مطولة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد طبعت مستقلة باسم السيرة النبوية لابن كثير، وهناك أيضا كتاب آخر هو كتاب التاريخ للذهبي أفرد مجلدين كبيرين أحدهما للسيرة النبوية، والثاني لمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا نقول، إن السيرة النبوية يمكن أن تستقى من كتب أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ في القرآن وكتب التفسير وفي مقدماتها تفسير الطبري، وتفسير ابن أبي حاتم الرازي.
3 -أحوال العرب قبل الإسلام:
قبل الحديث عن الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهدا لرسالة الإسلام، من المناسب أن نلقي نظرة سريعة على واقع العرب قبل الإسلام الجغرافي والاقتصادي والسياسي، والاجتماعي والفكري والديني، وهدفنا من ذلك معرفة المؤهلات والمقومات التي أعطت العرب وجزيرتهم صلاحية حمل رسالة الإسلام.
أ – البيئة الجغرافية:
تشغل شبه جزيرة العرب الجنوب الغربي لآسيا، يحدها شرقا الخليج العربي، وجنوبا المحيط الهندي وغربا البحر الأحمر، وشمالا الشام والعراق، وهي باستثناء بعض الجبال والهضاب المحادية للساحل الغربي، فهي عبارة عن صحاري وهضاب رملية، أما الأنهار والأودية فإنها غير موجودة في شبه الجزيرة العربية، باستثناء بعض المجاري الصغيرة التي يجري فيها الماء أحيانا ثم يجف سريعا لقلة سقوط الأمطار، أما المناخ فيغلب عليه الطابع الصحراوي ، فهو حار في الصيف والنهار، بارد في الشتاء والليل، أما الأمطار فقليلة جدا، تكاد تنعدم، وأكثر المناطق استقبالا للأمطار، المناطق الساحلية وخاصة في الجنوب، (اليمن وعمان).
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها بعد هذا العرض السريع للحالة الجغرافية لشبه جزيرة العرب أن طبيعة الإقليم ومناخه كان لهما أثر كبير في قلة عدد سكان شبه الجزيرة العربية إجمالا، وفي عدم انتظام المجتمعات الحضرية في جوانبها، كما كان لهما أثر في حياة الأمة، وأخلاقها وطباعها، وقد علل أحد المستشرقين بروز الروح الفردية عند أهلها ونفورهم من الخضوع لحكومة مركزية وتقاتل القبائل بعضها مع بعض نتيجة لهذه الطبيعة الجغرافية، فقال: "ففي عالم يعد فيه فقدان الأمن حالة طبيعية، والغزو وسيلة للعيش والثأر واجبا مقدسا، فرض على البدوي أن يكون محاربا، ولن يكون إلا هذا، حتى ولو لم يرتفع فوق مستوى الراعي البسيط، فمن واجبه حماية أمواله وعيون الماء ومواشيه، كما يجب عليه حماية الحضريين وإجبارهم على الإخلاص له، ومهاجمة الرهط، أو القبيلة المنعزلة التي لا تربطها بالقبائل الأخرى رابطة أو ثروة مادية" بلاشير نقلا عن عفت الشرقاوي "دروس ونصوص في قضايا الأدب الجاهلي: ص:53-54.
ب – الحالة الاجتماعية:
اعتاد المؤرخون أن يقسموا سكان شبه الجزيرة العربية إلى قسمين أساسيين: عرب الجنوب، وهم اليمانية أو القحطانية، نسبة إلى قحطان، وعرب الشمال، وهم المضرية أو العدنانية ، نسبة إلى مضر أو عدنان.
وكان عرب الجنوب يشتغلون بالزراعة، ومن ثم عرفوا حياة الاستقرار، وأسسوا حضارة ما تزال حصونها وهباكلها قائمة لم تندثر اندثارا تاما.
أما عرب الشمال فعاشوا حياة رعوية متنقلة، مع استثناء سكان المدن كمكة والمدينة والطائف. ومن هنا قام المجتمع العربي في الشمال على أساس اجتماعي انقسم معه العرب إلى بدو يعيشون على الرعي والإغارة، وحضر يسكنون المدن ويعيشون على التجارة والزراعة.
وقد كانت القبيلة أساس الحياة الاجتماعية عندهم، وهي التي تمثل الوحدة الاجتماعية والسياسية والجنسية، فكل فرد فيها مسؤول عنها وهي مسؤولة عن أفرادها في الخير والشر، وفي الحرب والسلم، فإذا ما ارتكب أحد الأفراد جرما هبت القبيلة كلها لنصرته سواء كان على حق أم على باطل، فمبدأهم أن ينصروا الفرد في الجماعة ظالما أو مظلوما. وقد صور هذه النجدة شاعرهم في قوله:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم *** لأية حرب أم بأي مكان
أما فيما يخص العلاقات الاجتماعية التي كانت تسود المجتمع العربي الجاهلي فهي تغلب عليها الفوضى وتسودها روح الفساد والمصلحة حيث الاستبداد في أبشع صوره، الظالم يتحكم في المظلوم والقوي يقهر الضعيف، وحيث العداوة والخصام مستمرين بسبب التزاحم على المراعي ومنابع المياه، وانتشرت بينهم العادات السيئة مثل شرب الخمر والقمار والربا والزنا ونكاح الاستبضاع ووأد البنات وقطع الطرق وشن الغارات والحروب على بعضهم، للسلب والنهب، غير أن هذا لم يمنع أن يكون للعرب في الجاهلية قيم وعادات حسنة كالصدق وإكرام الضيف والوفاء بالعهود واحترام الجوار وتقرير مبدأ الحماية لمن طلبها والسماحة وعدم قبول الذل والمهانة وهي خصال امتاز بها العرب نساء ورجالا.
ج- الحالة الدينية:
جاء في كتاب الأصنام لابن الكلبي:"أن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما لما سكن مكة وولد بها أولادا كثيرين حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا في البلاد لالتماس المعاش" (ابن الكلبي: الأصنام ص:63). يظهر من هذه القولة أن أقدم ديانة عرفتها شبه الجزيرة العربية هي الديانة الحنفية، التي نادى بها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لكن لم تمض فترة طويلة حتى ابتعد الناس عن توحيد الله إلى عبادة الأوثان والحجارة، وقد روى ابن الكلبي أن الذي جنح بهم إلى هذه العبادة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، وهم بعد يعظمون الكعبة، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل ثم سلخ بهم ذلك إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، فعبدوا الأوثان وعادوا إلى ما كان يعبده قوم نوح وأشركوا، وإن دانوا بالربوبية، وجعلوا ملك الأصنام بيده تعالى وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }(يوسف106) أي ما يوحد نني إلا جعلوا معي شريكا من خلقي.
أما الأصنام والتماثيل فإن أول من أتى بها من الشام إلى الديار الحجازية هو عمرو بن لحي الخزاعي إذ سافر مرة من مكة إلى الشام فرأى أهل الشام يعبدون الأصنام فاستحسن ذلك وظنه حقا، لأن الشام محل الرسل والكتب السماوية، فقدم معه بهبل، وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله فأجابوه ثم لم يلبث أن تبعوا أهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم. وإلى جانب عبادة الأوثان كانت شبه الجزيرة العربية، تعرف ديانات ومعتقدات أخرى، فكان فيهم الموحدون الأحناف، وهي تلك القلة القليلة التي نبذت عبادة الأصنام، وتمسكت بالديانة الحنفية، ثم هناك اليهودية، وقد وجدت في بعض القبائل المهاجرة من الشمال التي أقامت في القرى والمدن حيث المال والاستقرار وأسباب الزراعة والتجارة والصناعة، ولاسيما في يثرب وتبوك وفي اليمامة واليمن، وهناك النصرانية وكانت منتشرة في بلاد اليمن ونجران وفي المناطق الشمالية المتاخمة للشام والعراق، كالحيرة ودومة الجندل. وأخيرا الصابئة والمجوس الذين عبدوا الكواكب وخاصة عرب الجنوب.
من خلا استعراضنا للحالة الدينية في شبه الجزيرة العربية بدء من عهد إسماعيل إلى فترة ما قبل الإسلام نرى أن العرب قد انقسموا في دينهم طرائق قددا إلا أن الوثنية كانت الديانة الأكثر انتشارا بين القبائل العربية.
د - الحالة القتصادية:
اختلفت حياة العرب الاقتصادية في جنوب شبه الجزيرة العربية عنها في شمالها، حيث عرف سكان الجنوب حياة مستقرة، تعتمد على الزراعة، ساعدهم على ذلك سد مأرب الذي كان يحجز لهم مياه الأمطار، فوجدت عندهم بعض الصناعات، مثل صناعات السيوف والرماح، ولم يقتصر سكان الجنوب على الزراعة والصناعة فقط بل استغلوا كذلك التجارة، غير أن انهيار سد مأرب أدى إلى انحطاط الحياة الاقتصادية في الجنوب.
أما في الشمال فكانت حياة العرب الاقتصادية تنقسم إلى قسمين:
البدو : وكانوا يعتمدون على رعي الأغنام والأنعام، وتربية الخيول وبيعها، كما كانوا يعتمدون في معيشتهم على الغزو والإغارة ولاسيما في أوقات الجذب، والقحط.
الحضر: وهم سكان مكة والمدينة والطائف، وخيبر، وكانوا يعتمدون على الزراعة والتجارة وخاصة أهل مكة الذين ازدهرت التجارة عندهم، إذ كانت تقوم فيها قريش بدور الوسيط في نقل التجارة بين بلاد اليمن جنوبا وبلاد الشام شمالا.وأهم الأسواق التي عرفتها الجزيرة العربية في هذه الفترة التي تدل على ازدهار اقتصادها ولاسيما مجال التجارة: هناك سوق دومة الجندل في شمال نجد، وسوق دبا بعمان، وأشهر هذه الأسواق على الإطلاق سوق عكاظ، وكانوا يقيمونها في نجد بين نخلة والطائف. وكان لكل سوق من هاته الأسواق وقت خاص لا يتعارض بعضها مع بعض ليستطيع كل من شاء أن يحضر هذه الأسواق دون أن تفوته واحدة منها.
هـ - الحالة السياسية:
كانت شبه الجزيرة العربية مفككة سياسيا، لا توحدها دولة ولا تديرها حكومة، وكانت الدول القديمة التي قامت في اليمن ونجد وأطراف العراق والشام قد اندثرت، وطغت البداوة على المدن الباقية في الحجاز، فكانت القبيلة تمثل الوحدة السياسية والاجتماعية. فسادت الروح القبلية وسيطرت على النفوس وتحكمت روح العداوة في الجماعات متخذة طابع الثأر حينا وطابع الغزو حينا آخر. ففيما يخص الثأر فقد كانت أكبر قانون عندهم، يخضع له كبيرهم وصغيرهم ، بل إنه حسب شوقي ضيف قد اصطبغ بما يشبه الصبغة الدينية "إذ كانوا يحرمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتى يثأروا من غرمائهم، ولم يكن لأي فرد من أفراد القبيلة حق ولا ما يشبه الحق في نقض هذه الشريعة ولا في الوقوف ضدها أو الخروج عليها، فما هي إلا أن يقتل أحد منهم، فإذا سيوف عشيرته مسلولة وتتبعها العشائر الأخرى في قبيلته" (شوقي ضيف، العصر الجاهلي: ص: 62).
أما فيما يخص الغزو فإن الطبيعة الجغرافية الجذبة القاحلة وما تسببه من نقص في المأكل والمشرب هي التي دفعت أصحابها إلى الغزو والإغارة لضمان عيشهم وبقائهم.
ومن أهم الأحداث السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية في القرن الثالث الميلادي تنازع كل من الإمبراطورية الرومانية والفارسية على المنطقة، إلا أن للقبائل العربية المتاخمة لهما أقضت مضاجعهم بغاراتها خاصة وأن الإمبراطوريتين كلما فكرتا في غزو الجزيرة والسيطرة عليها تراجعتا لما يتطلبه ذلك الغزو من نفقات باهظة دون أن يرجى منها خير كثير، وقد هدتهم الحيلة إلى أن تنشأ كل إمبراطورية على حدودها إمارة عربية تكون بمثابة الدرع الواقي لها من غارات القبائل العربية، فأنشأ الرومان إمارة الغساسنة التي قامت في دمشق، أواخر القرن الخامس الميلادي تقريبا، كما أنشأ الفرس إمارة المناذرة التي قامت في العراق أواخر القرن الثالث الميلادي، وبذلك يمكن القول إن الحياة السياسية للعرب انطبعت إجمالا بطابع العصبية مما حول هذه الحياة إلى مسرح دائم يشهد في كل يوم ضروبا شتى من ضروب التنافس والتقاتل، فكانت بينهم أيام مشهورة وحروب معروفة ما أن تخمد نارها حتى تثور مرة أخرى، ومن أشهر حروبهم حرب البسوس والغبراء وحرب بعاث وحرب الفجار.
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها بعد استعراضنا لحالة العرب الجغرافية والسياسية والاجتماعية والدينية، أن عرب شبه الجزيرة العربية، كانوا في الحضيض من الضعف والتدهور والفساد والضلال. فكانت الحاجة ماسة إلى فجر النبوة المحمدية لتبديد تلك المظالم المتراكمة، وذلك الفساد المستشري. وليغمر النور المحمدي أرجاء بلاد العرب والكون من ورائها هداية ونورا. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن الموقع الجغرافي لشبه جزيرة العرب بالنسبة للعالم، كان سببا في اختيارها لتكون موطنا للرسالة الخاتمة، فرقعتها الجغرافية تقع في الوسط بين أمم الأرض حينئذ، وهم الفرس والروم واليونان وشعوب أوربا، وبقية الشعوب في الهند والصين واليابان، وهي كلها أمم غارقة في الظلم والضلال والفساد. فهذا الموقع جعلها مؤهلة لنشر الدين الجديد وحمله إلى جميع هذه الشعوب بسهولة ويسر. كما أن موقعها الجغرافي أهلها لتعيش في عزلة عن الصراعات الفكرية والضلالات الحضارية سواء الرومية أو الفارسية، أو الهندية، أو اليونانية، مما قلل من وسائل الانحلال الخلقي والفلسفي في أرجائها، فهي على ما كانت عليه من انحراف فقد كانت أقرب إلى الفطرة الإنسانية إذ كانت بيئة أمية لم تتعقد مناهجها الفكرية، بل كانت أقرب لقبول الدين الحق والإذعان له، إضافة إلى ما كان يتحلى به أهلها من أخلاق حميدة، ولعل أغلى ما عندهم من هذه الأخلاق وأعظمها نفعا بعد الوفاء بالعهد، هو عزة النفس والمضي في العزائم إذ لا يمكن إقامة الدين ونشر العدل والخير، إلا بهذه القوة القاهرة وبهذا العزم الصميم.

ليست هناك تعليقات:

أهداف منتدى الفصيح : توسيع دائرة التواصل بيننا وبين الباحثين، تقريب المعلومة من الطلبة على وجه الخصوص،وجعل المنتدى جسرا لمواقع وموسوعات علمية متنوعة، ونقل الخبر، عبر ربط المنتدى بأهم الجرائد والقنوات العالمية.
Google
دليل العرب الشامل الجزيرة نت سوالف المنتديات

أخبار الجزيرة