بقلم الدكتورة: حفان مليكة
يمكن الرجوع في مصدر نشر هذا البحث إلى موقع المعهد العالي للفكر اللإسلامي، منتدى إسلامية المعرفة.
تقديم:
امتازت قضية الإعجاز القرآني خلال القرن الرابع الهجري بالدقة وشمول الفكرة، وتوصل العلماء إلى آراء قيمة تعتمد المقارنة والموازنة في سبيل توضيح فكرتهم وإثبات نظريتهم في الإعجاز، فالقرآن الكريم كلام الله تعالى، ولا سبيل إلى إدراك إعجازه والوقوف على سر بلاغته، إلا بدراسة أساليبه في التعبير، ومقابلتها وموازنتها بالجيد من كلام العرب، ثم استخلاص عناصر الجودة في التعبيرات القرآنية، ومواضع التقصير في تعبيرات البلغاء، ليبينوا فضل القرآن على كلام الفصحاء الذين استوت لديهم ملكة البيان، واعترف لهم البشر فيه بالإجادة والإتقان([1]).
وكان من الطبيعي أن تتطور هذه الآراء وهذه التصورات، وأن تمهد لغيرها من الجهود اللغوية والبلاغية. فإذا انتقلنا من دراسة قضية الإعجاز القرآني خلال القرن الرابع الهجري إلى القرن الذي يليه، وجدنا نظرة العلماء إلى هذه القضية تتكامل وتتحدد دلالتها وأبعادها تحديدا شاملا، نتيجة تطور الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال هذا العصر. ويمكن اعتبار هذه المرحلة الحضارية من تاريخنا الإسلامي مرحلة النضج والازدهار في حياة الفكر العربي الإسلامي. فاللغة تعيش عصرها الذهبي، والعلوم كلها (فلسفة ومنطقا وأدبا ونحوا وبلاغة ونقدا...الخ) تبلورت وتطورت "وبدا الانتفاع بالغراس الذي زرعت نواته في القرن الثالث الهجري، وشمخت دوحته وتفرعت أفنانه في القرن الرابع، ثم كانت ثمرته الناضجة في القرن الخامس"([2]). وحسبنا أن نرى ثمراته في نظرية النظم التي أبدعها عبد القاهر الجرجاني وضمنها كتابيه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) بعد ذلك الجدل الطويل الذي دار بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من العلماء حول طبيعة الإعجاز القرآني، وحول طبيعة العلاقة بين اللفظ ومعناه، وستزخر هذه المرحلة بطائفة من العلماء الأفذاذ، وبكثير من الدراسات المهتمة بقضية الإعجاز القرآني التي تعددت مناهج بحثها لهذه القضية بحسب العقليات التي أملتها، وبحسب المنطلقات الفكرية والمذهبية لأصحابها، ويأتي في مقدمة هذه الدراسات الجزء السادس عشر من كتاب (المغني في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت.415هـ) ولم يكن القاضي عبد الجبار بعيدا عن الظروف العامة التي كانت تحكم عصره، فقد نضجت دراسته للإعجاز القرآني ووصلت درجة الاكتمال والإبداع. يتضح ذلك اتضاحا في استبعاده للتفسيرات الجزئية لمسألة الإعجاز، فليس الإعجاز في الإخبار عن الغيوب، ولا في الصرفة، ولا في فنون البديع وغير ذلك من الوجوه التي ألف علماء الإعجاز الخوض فيها حين يتكلمون عن الأمور التي صار بها القرآن معجزا، لذا عمل القاضي عبد الجبار على أن يقدم رأيا في الإعجاز يتمثل في القرآن كله، ويشمل سوره الطوال والقصار، بل يشمل كل آية من آياته، فكانت خلاصة هذه الدراسة عنده أن اعتبر الإعجاز راجعا إلى فصاحة القرآن، ويريد بها طرق أداء الكلام وصورته التركيبية وما يسود فيهما من روابط نحوية. ومن هنا تأتي أهمية جهود عبد الجبار في دراسته لمسألة الإعجاز، حيث حصره في قوانين يمكن اكتشافها والعلم بها، فهي في مجملها قوانين لغوية يشارك فيها النص القرآني غيره من النصوص لأن النحو شرط لا يستقيم بدونه كلام.
وإذا كان القاضي عبد الجبار قد توصل بفكره النير وثقافته الواسعة إلى فكرة النظم وتعليق الكلام بعضه ببعض داخل العبارة أو الجملة، فإن سقوطه في أسر المقولات العقلية الجافة جعله لا يمضي بعيدا في تفسير نظريته في النظم حيث تعرض للمصطلح بصورة مجملة، ولم يحلله تحليلا لغويا يكشف عن طاقات اللغة في التعبير والبيان. ومن الواضح أن الخلاف الفكري المذهبي بين المعتزلة والأشاعرة كان له أثر كبير في تحديد موقف القاضي عبد الجبار من قضية النظم والإعجاز، حيث تأثرت بحوثه في هذه القضية بمفاهيم وأصول العقيدة المعتزلية، ومن هنا كانت أقواله في إعجاز القرآن ووجوهه، وفي ثنائية اللفظ والمعنى، وطبيعة العلاقة القائمة بينهما، ذات علاقة وثيقة بهذه العقيدة.
1- مفهوم الفصاحة عند القاضي عبد الجبار:
حاول المعتزلة في ضوء الأصول الاعتزالية الخمسة تنقية العقيدة الإسلامية من كل ما لابسها من سوء فهم وفساد تأويل، والدفاع عنها إزاء كل هجوم أو تشكيك أو لبس، وإثبات وحدانية الله تعالى ونبوة نبيه عليه الصلاة والسلام وإعجاز القرآن الكريم. وكان مبدأ التوحيد – عندهم – منطلقا أساسيا لمبحثهم في قضية الإعجاز. يقول الدكتور منير سلطان "إن الطريق الذي أدى بالمعتزلة إلى القول في الإعجاز، كانت بدايته الكلام في وحدانية الله تعالى، وهي وحدانية مطلقة لا شريك ولا شبيه، والله تعالى قد اختار رسولا نبيا وبعثه بشريعة إلى قومه، فنبوته ثابتة وما جاء به حق "([3]).
وقد سار القاضي عبد الجبار على النهج المعتزلي في إثبات نبوة النبي r ومعجزته الخالدة، ومحلها من معجزات غيره من الأنبياء، فاحتكم إلى العقل لإدراك أسرار الإعجاز القرآني والكشف عن مواطن الإعجاز فيه، لأنه المعيار الحقيقي –عند المعتزلة– للتمييز بين الحق والباطل والخطإ والصواب، وهو الحجة الأولى في التحسين والتقبيح. ولقد قاده الاتجاه العقلي الذي انتهجه إلى رفض التسليم بوجوه الإعجاز التي ذكرها العلماء من قبل، وإلى تصحيح بعض المفهومات التي تتصل بأمر المزية في الكلام، فرفض اعتبار الإخبار عن الغيوب، أو انفراد القرآن بأسلوب من النظم خارج عن المعهود والمألوف من أساليب العرب، أو ما كان عليه من السلامة من الاختلاف والتناقض وجوها للإعجاز القرآني. فكل هذه الوجوه في مفهوم القاضي عبد الجبار ليست مناط التحدي بالقرآن، وإنما هي وسائل تثبيت دعائم الإعجاز وترسيخه في النفوس. ولذلك يرى أن إعجاز القرآن إنما يرجع لمزية في الفصاحة، فهي المعجزة التي تحدى بها – U- فصحاء العرب وما استطاعوا إليها سبيلا.
وإذا كان عبد الجبار قد جعل إعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته التي لم تبلغها بلاغة البلغاء وفصاحة الفصحاء، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، هو ما وجه فصاحة هذا الكلام الفصيح الذي صح به التحدي ووقع به الإعجاز؟ أفي كلماته المفردة من حيث سلامتها في نفسها وذاتها، وبعدها عن الغرابة والوحشية؟ أم في نظم هذه الكلمات وتأليفها حين يضم بعضها إلى بعض فيقع بينهما تجانس وتناسب والتحام؟
إن الفصاحة حسب علماء اللغة والبيان، يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام، فالفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف والغرابة، ومخالفة العرف العربي الصحيح في التصريف والاستعمال. أما الفصاحة في الكلام فيشترط فيها إضافة إلى الشروط المعتبرة في فصاحة المفرد، خلوص الكلام من ضعف التأليف، ومن تنافر الكلمات والتعقيد الذي يحصل بسبب خلل في نظم الكلام، وبمعنى آخر تأخير ما حقه التأخير أو العكس([4]). وقد انقسم علماء المسلمين بخصوص مسألة الفصاحة، وهل هي راجعة للألفاظ أم للمعاني إلى فريقين: فريق اعتبرها من صفات اللفظ ومن خصائصه، كما عبر عن ذلك ابن سنان بقوله "الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ، وبحسب الموجود منها، تأخذ القسط من الوصف، وبوجود أضدادها تستحق الاطراح والذم"([5]).
وفريق آخر ربط مفهوم الفصاحة بالمعنى، لأن قيمة اللفظ لا تتحدد إلا بمقدار ما يوحي به من المعنى، ويحدد هذه القيمة فيزيد في "استحسانها أو استهجانها عند المتلقي معرض سياقها الذي يتكشف بانضمام اللفظ إلى اللفظ، أو بعبارة أدق انضمام مضمومات الألفاظ بعضها إلى بعض"([6]). أي أن الفصاحة لا تظهر إلا بضم الكلام بعضه إلى بعض في جملة من القول، أو في نص من النصوص، ولا اعتبار للفظ قبل أن يدخل في هذا النظم الذي ينتظم به المعنى. يقول عبد القاهر الجرجاني "والنظم والترتيب في الكلام كما بينا عمل يعمله مؤلف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها، وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش والوشي"([7]).
ولم يكن عبد الجبار بعيدا عن هذا الصراع الدائر بين العلماء حول مفهوم الفصاحة، وهل هي راجعة للألفاظ أم للمعاني أم هما معا. يعرفها بقوله "اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولابد من الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه إما أن يعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولابد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لابد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضه إلى بعض، لأنه قد يكون لهذا الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها. فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها"([8]).
واضح من هذا النص، أن القاضي عبد الجبار ينظر إلى الكلمة نظرتين باعتبارين مختلفين: نظرة في حال إفرادها، ونظرة أخرى في حال نظمها مع غيرها من الكلمات. وهي في كلا الحالتين واقعة تحت أحوال ثلاثة:
أولها: مفهومها في ذاتها من حيث وضعها اللغوي الذي لها عند أهلها والناطقين بها.
ثانيها: مفهومها حين تتداول عليها الحركات الإعرابية فتكون فاعلا أو مفعولا أو حالا أو صفة أو تمييزا.
ثالثها: مفهومها حين تأخذ مكانا خاصا في التركيب فتتقدم أو تتأخر([9]).
وبهذا يكون الذي عليه المعول في بلاغة الكلام هي الفصاحة، وأن هذه الفصاحة تدور في مجالات ثلاثة:
أ- وضع الكلمة في اللغة: ليس المقصود بالمواضعة عند عبد الجبار، المواضعة اللغوية، أي المواضعة بوصفها علاقة بين الألفاظ وما تشير إليه. فالمواضعة بهذا المعنى لا دخل لها بالفصاحة على الإطلاق، لأن الكلام كله فصيحا كان أو غير فصيح، ينتمي إلى مجال اللغة، وهي كلها - حسب المعتزلة – تعتمد على المواضعة. يقول عبد الجبار "على أن هذا السائل ظن أن المزية في الفصاحة إنما تكون بأصل المواضعة، وليس الأمر كذلك، لأن ما يبلغ من الكلام في الفصاحة النهاية، لا يخرج عن أن يكون من جملتها، وإنما تتبين زيادة الفصاحة لا بتغير المواضعة، لكن بالوجوه الذي ذكرناها، وهذا كما نعلم من حال الثياب المنسوجة، أنها تتفاضل بمواقع الغزل وكيفية تأليفه، وإن كان غزل الجميع لا يتغير كما نعلمه من حال الديباج المنقوش"([10]). إن ما يقصده عبد الجبار بالمواضعة التي تتناول الضم، ما عبر عنه في موضع آخر بالإبدال([11]). ومعناها اختيار كلمة معينة من بين كلمات أخرى تماثلها أو تشابهها صيغيا ودلاليا.
ب - اختيار الوظيفة التي تؤديها الكلمة في سياق الكلمات، وتركيب الجملة التي ترتبط بها، وهو ما عبر عنه عبد الجبار بالحركات التي تختص الإعراب.
ج - مراعاة مواقع الكلمات ودورها في إيضاح الدلالة، وذلك بأن ننظر إلى موقع الكلمة عندما تنتظم إلى بعضها بعضا في تعبير معين، وهو ما عبر عنه عبد الجبار بالموقع الذي يختص التقديم والتأخير.
وهكذا نلاحظ أن مفهوم النظم عند عبد الجبار أصبح أكثر وضوحا وعمقا مما كان عند سابقيه، كالجاحظ والباقلاني والرماني والخطابي، فهو يشير صراحة إلى حركات النحو وما ترسم من فروق في العبارات. لقد أدرك عبد الجبار ما عجز عنه سابقوه، فبلور فكرة النظم وأضاف أفكارا جديدة ، وهي بوجه خاص فكرة (الضم) التي يدخل فيها الإعراب والموقعية في تركيب الكلام. يقول "فالذي به تظهر المزية، ليس إلا الإبدال الذي به تختص الكلمات، أو التقدم والتأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات الذي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة. ولابد في الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر، أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه، ولا يمتنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى، تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره، وكذلك فيها إذا تغيرت حركاتها، وكذلك القول في جملة من الكلام، فيكون هذا الباب داخلا فيما ذكرناه من موقع الكلام، لأن موقعه قد يظهر بتغير المعنى، وقد يظهر بتغير الموضع وبالتقديم والتأخير"([12]). الذي يفهم من كلام عبد الجبار، أن الفصاحة التي يفسر بها الإعجاز القرآني، التي يتفاضل بها البلغاء، لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالتأليف والتركيب، وضم الكلام بعضه إلى بعض على طريقة مخصوصة. فالكلمة لا تعد فصيحة في نفسها بل لابد من ملاحظة صفات مختلفة لها، كالإبدال الذي تختص به الكلمات، والتقدم والتأخر الذي يختص الموقع، والحركات التي تختص الإعراب. وحصر وجوه الإعجاز في هذه الوجوه الثلاثة، ليس إلا محاولة من جانب عبد الجبار والمعتزلة عموما، حصر الإعجاز القرآني في قوانين يمكن اكتشافها والعلم بها، وهي قوانين لغوية يشارك فيها النص القرآني غيره من النصوص من جهة، ولكنه يتفوق عليها في استثمار نفس القوانين من جهة أخرى([13]). وهذا الموقف الذي عبر عنه عبد الجبار ينجسم مع مبدإ المعتزلة في التوحيد والتنزيه، وخاصة عقيدتهم في كلام الله تعالى، لأن هذه العقيدة قد حددت وجهة نظرهم في قضية الإعجاز، فالقرآن محدث مخلوق، وهو من جنس الكلام المعقول في الشاهد، فاعتبروه حروفا منظومة وأصواتا مقطعة في الشاهد والغائب([14]). وإذا كان النص القرآني لا ينفصل عن الكلام البشري فإنه يتكون من قوانين يمكن للبشر فهمها والعلم بها.
وبتفسير الفصاحة عند عبد الجبار على هذا الوجه، نكون أمام رؤية ناضجة ومتطورة للفصاحة، تقترب من تفسير عبد القاهر الجرجاني لنظرية النظم القائمة على توخي معاني النحو وأحكامه بين الكلم. يقول "اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه (علم النحو)، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها"([15]). وإذا وقفنا عند تحديد عبد الجبار للفصاحة، وجدناه يشير صراحة إلى حركات النحو وما ترسم من فروق في العبارات. فحركات الكلمة عنده لا يقصد بها الحركات الظاهرة وإنما يريد معنى أعمق هو النظام النحوي للكلام، نظاما يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، لا ضم الشيء إلى الشيء كيفما اتفق، وهو بعينه ما يقصد إليه عبد القاهر الجرجاني([16]).
إن ما يهمنا من كل هذه الملاحظات، قبل أن ننتقل إلى مبحث آخر، هو معرفة قيمة الجهد المبذول من قبل القاضي عبد الجبار في سبيل الكشف عن خصوصية الفصاحة التي يتفاضل بها الكلام، التي صار بها القرآن معجزا، وإن لم يستطع وضع نظرية في النظم شبيهة بتلك التي وضعها عبد القاهر، إلا أنه استطاع وضع الأسس الأولى لهذه النظرية، فكانت المنارة التي اهتدى بها الإمام عبد القاهر الجرجاني في وضع نظرية النظم القائمة على معاني النحو وأحكامه.
2- ثنائية اللفظ والمعنى:
من المسائل التي استأثرت باهتمام علماء الإعجاز خلال القرن الخامس الهجري مسألة اللفظ والمعنى، وطبيعة العلاقة القائمة بينهما، فدرسوها ورصدوا مظاهرها بغية تحديد دور كل منهما في إعطاء النص القرآني قيمته الفنية، ومن ثم تحديد أسباب هذا الإعجاز وتحديد مواطنه.
ويعتبر القاضي عبد الجبار من أبرز العلماء الذين كانت لهم آراء لغوية جد متقدمة تماشت مع تطور الحياة العقلية والفكرية خلال هذه المرحلة من تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، حيث تحدث عن اللفظ ودوره في أدائه لمعناه، وعن المعنى ومكانته من فصاحة الكلام، ثم تحدث عن الألفاظ في تعلقها بالمعاني، وعن المعاني ووجودها في تركيب حسن وفق ما تتطلبه أبواب النحو المختلفة.
ويوضح عبد الجبار موقفه من هذه الثنائية من خلال كلام أستاذه أبي هاشم الجبائي فيقول: "إنما يكون الكلام فصيحا لجزالة لفظه وحسن معناه، ولابد من اعتبار الأمرين، لأنه لو كان جزيل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا، فإذن يجب أن يكون جامعا لهذين الأمرين"([17]). وجوهر هذا الكلام أن إعجاز القرآن ليس من جهة اللفظ وحده، ولا من جهة المعنى وحده، وإنما يقوم على جزالة اللفظ وحسن المعنى. والذي نحب أن نقرره أن عبد الجبار إذ يجعل الفصاحة في جزالة اللفظ وحسن المعنى، فإن ذلك لا يعني أن فصاحة الكلام تتحقق بجزالة اللفظ وحسن المعنى فحسب، من غير مراعاة نظمها ومواقعها في الكلام، لأن الألفاظ في حالة إفرادها لا توصف بالفصاحة ولا بالجزالة، وإنما توصف بذلك بملاءمتها لجاراتها، وتعلقها بأخواتها، بحيث تأتي بجانب أختها منسجمة متلاحمة تنتظم في العبارة، كانتظام الجواهر داخل العقد، وهذا التوافق والانسجام هو الذي يكشف عما في الألفاظ من حسن وجمال. وما يؤكد هذا الكلام، قوله في موضع آخر من كتابه "ولا يكون الكلام فصيحا إلا بحسن معناه، وموقعه واستقامته، كما لا يكون فصيحا إلا بجزالة لفظه"([18]). فاللفظ الكريم والمعنى الحسن لهما فضل في نظم الكلام وجمال التأليف، والنظم والتأليف يحسن بالألفاظ العذبة، والمعاني المختارة، ويقبح بالألفاظ القبيحة الخشنة، وبالمعاني المبتذلة. وبهذا الرأي يقترب القاضي عبد الجبار كثيرا من الرماني في آرائه، وتعريفه للبلاغة عندما خصها باللفظ والمعنى فقال "وليست البلاغة إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عي، ولا البلاغة أيضا بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يتحقق اللفظ على المعنى، وهو غث مستكره ونافر متكلف، وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ"([19]).
ولا غرابة في أن نجد تقاربا بين آراء عبد الجبار وأبي هاشم الجبائي والرماني في اهتمامهم بالألفاظ، وبحسن صياغتها، لإثبات إعجاز القرآن، فهم جميعا من كبار أعلام المعتزلة، وقد استمدوا آراءهم من مبادئ المعتزلة، ومن أصولهم الفكرية، وخاصة عقيدتهم في كلام الله. لأن هذه العقيدة هي التي حددت وجهة نظرهم في قضية الإعجاز في علاقتها بثنائية اللفظ والمعنى، وفي كثير من قضايا اللغة والبيان. وإذا كان أبو هاشم في حديثه عن اللفظ والمعنى قد أغفل جانب النظم – وهي مسألة أساسية في بلاغة العبارة وفصاحتها – وإذا كان الرماني لم يتمكن من الوقوف على ما ينشأ بين الألفاظ والمعاني من علاقات لغوية نتيجة ترابطهما، فإن القاضي عبد الجبار لم يفته هذا الأمر وتحدث عن صورة تركيب الكلام، وكيفية ضم الكلام بعضه إلى بعض فقال "اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة"([20]). فالكلمة – كما أشرنا سابقا عند حديثنا عن مفهوم الفصاحة – لا تعد فصيحة في نفسها، بل لابد من ملاحظة صفات مختلفة لها، كالإبدال الذي تختص به، وحركاتها في الإعراب، وموقعها في التقديم والتأخير([21]). فحديث عبد الجبار عن معاني النحو بمعناه الواسع الشامل لموقع الكلمة في الجملة، أو العبارة وحركاتها وإعرابها، وصرفها بين المفرد والجمع والتذكير والتأنيث، وملاحظة موقعها في التقديم والتأخير، هو الجديد الذي أضافه عبد الجبار لأبحاث السابقين في النظم، وفي تصوره لثنائية اللفظ والمعنى، ولطبيعة العلاقة القائمة بينهما. فكل لفظة من الألفاظ المكونة للعبارة لابد أن توضع في المكان الذي تتطلبه أبواب النحو المختلفة كي تؤدي العبارة وظيفتها الدلالية.
ومع هذه الإضافة ظل عبد الجبار محتفظا بجوهر النظرية الاعتزالية في النظم والإعجاز، هذه النظرة التي تعتبر إعجاز القرآن كامنا في الكلام المؤلف من الأصوات، وفي الصورة السمعية للكلام، وما يتصل بها من فصاحة الألفاظ وانسجامها وتلاؤمها. أما المعاني فهي شائعة بين الناس ومتيسرة للجميع، فلا يصح أن يتعلق بها الإعجاز القرآني، أو أن ترد إليها المزية في بلاغة الكلام، وهي الفكرة التي يقول بها الأشاعرة استنادا إلى موقفهم من كلام الله تعالى، وموقفهم من الكلام النفسي. ويظهر ذلك جليا من تقريره الصريح بأن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ. يقول القاضي عبد الجبار "فإن قال فقد قلتم في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه؟ قيل له إن المعاني وإن كان لابد منها، فلا تظهر فيها المزية، وإن كان تظهر في الكلام لأجلها، ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق، وقد يكون أحد المعنيين أحسن وأرفع، والمعبر عنه في الفصاحة أدون، فهو مما لابد من اعتباره، وإن كانت المزية تظهر بغيره، على أنا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عنده الألفاظ التي يعبر بها عنها"([22]). وبتقريره أن التفاضل إنما هو في نظم الألفاظ، وأن المعاني لا تفاضل فيها، يتصل عبد الجبار اتصالا وثيقا بمذهب الجاحظ في إيثار اللفظ والصياغة، وإعطاء الاعتبار لهما. أما المعاني فهي مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي، وإنما يتفاضل الناس في التعبير عنها([23]).
وقد اعترض عبد القاهر الجرجاني تحديدا على هذا النص، مخالفا عبد الجبار في تفسيره فصاحة الكلام لأنه يسلب مقولة الضم فعاليتها، فبعد أن أكد عبد الجبار على أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلام، ولكن بالضم على طريقة مخصوصة، يأتي هذا النص بما يتضمنه من مفهوم للمعنى، ليسلب ما يمكن أن ينطوي عليه الضم من فعالية، إذ يوحي بأن طرائق التركيب تنحصر فعاليتها في الألفاظ المنضمة وفق الموقع والإعراب دون النظر إلى دلالاتها المنبثة في العبارة، وهذا ما دفع عبد القاهر الجرجاني إلى التحامل على عبد الجبار وعلى أنصار اللفظ عامة، الذين يتوخون الصياغة اللفظية دون أدنى اهتمام بالمعاني، وبقيمتها في التأليف فيقول "وهذا كلام إذا تأملته لم تجد له معنى يصح عليه، غير أن تجعل (تزايد الألفاظ) عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان محال"([24]).
غير أن هذا الكلام، لا ينبغي أن يجعلنا ننساق وراء ادعاء عبد القاهر بأن عبد الجبار من أنصار اللفظ فنغمطه حقه، فهو حين ينفي أن تكون المعاني أساسا للمفاضلة في كلامين فصيحين، أو أن تكون ركنا أساسيا في الإعجاز، لم يكن استخفافا بقدر المعاني أو تهوينا من شأنها، فقصده أن المعاني مشاعة بين الناس تتأتى لخاصتهم وعامتهم، عكس الألفاظ التي يحتاج الأديب إلى قدرة خاصة تمكنه من استغلالها أو استعمالها، لذلك فإن الكلام الفصيح تظهر مزيته ويبين فضله من صياغته الفنية القادرة على تقديم هذه المعاني في شكل حسن وجميل. فهو كغيره من علماء المعتزلة من أنصار الصياغة اللفظية السليمة، مع قدرة هذه الصياغة على جلاء الصورة الأدبية. وقد أكد عبد الجبار في النص السالف الذكر، أن المزية ليست إلا في الإبدال الذي تختص به الكلمات، والتفاضل في اختيار كلمة بدلا من أخرى، أو بتقدم كلمة أو تأخرها بحسب ما يراد منها، أو بتغير حركات الإعراب عليها تبعا لموقعها من الكلام. وما يصدق على الكلمة الواحدة يصدق على جملة الكلام. وفي هذا الكلام إشارة صريحة إلى أن اللفظة المفردة –سواء من حيث أصواتها أو من حيث معانيها- لا تدخل في إعجاز القرآن، ولا ترجع إليها المزية في الفصاحة والبيان، وأنها قد تكون في موضع أفصح منها إذا استعملت في موضع آخر، كذلك الشأن إذا تغيرت حركاتها أو موقعها. يقول عبد الجبار "ولا يمتنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى، تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره، وكذلك فيها إذا تغيرت حركاتها، وكذلك القول في جملة من الكلام، فيكون هذا الكلام داخل فيما ذكرناه من موقع الكلام، لأن موقعه قد يظهر بتغير المعنى، وقد يظهر بتغير الموضع وبالتقديم والتأخير، فليس لأحد أن يعترض بذلك ما ذكرناه"([25]). وقول عبد الجبار بأن اللفظة المفردة لا معتبر لها في الفصاحة والبيان، يردده عبد القاهر نفسه في كتابه (دلائل الإعجاز) قائلا "فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا، أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مفردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعني اللفظة التي تليها، وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ويشهد لك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر...فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حالها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إما أن تحسن أبدا أولا تحسن أبدا"([26]). فالألفاظ – حسب عبد القاهر– لا تتمايز من حيث هي ألفاظ مفردة، وإنما تكون لها المزية حينما تنتظم مع بعضها مكونة جملا وعبارات، وهي الفكرة التي كان عبد الجبار قد أشار إليها حين اعتبر الألفاظ المفردة لا تدخل في إعجاز القرآن، ولا ترجع إليها المزية في فصاحة الكلام، إلا إذا اندرجت في سلك التعبير، وانضم بعضها إلى بعض، وأخذت مكانها الطبيعي الذي يقتضيه نظم الكلام، وانسجمت مع ما قبلها وما بعدها لأداء المعنى.
ويبدو أن الصراع المذهبي كان السبب الذي يحرك عبد القاهر الجرجاني في مواجهته لعبد الجبار فاعتبره من دعاة اللفظ وأنصاره "ومن هو الأديب الذي يبدد كلماته، وينثر ألفاظه، كيف تجيء وكيف تتفق، من غير محاولة للترتيب، ورعاية التركيب، كما يزعم عبد القاهر؟ ومن الذي يدعي أن مثل هذا يمكن أن يعد أدبا أو يعد بيانا؟ إن المعنى من صنع الأديب وتصوره حقا، ولكن تخيره الألفاظ وتنسيقها من صنعه أيضا، ولا يجحد أن كثيرا من المعاني تتكون في أذهان كثير من الناس، ولكن تصويرها مجال تفاوت شديد، وتباين ظاهر بين الناس، بل بين الأدباء. والأدلة على ذلك لا تحصى مما وقع لكبار الأدباء أنفسهم، وباعترافهم أنفسهم بأن غيرهم قد أجاد في العبارة وتفوق عليهم بوسائل الأداء، مع أن المعاني معانيهم والأفكار أفكارهم"([27]). ويبدو الصراع المذهبي واضحا حين نرى عبد القاهر يعيب على عبد الجبار قوله إن الفصاحة لا تكون في الكلام، وإنما تكون فيها إذا ضم بعضها إلى بعض بطريقة مخصوصة، فمثل هذا الوصف المجمل للفصاحة غير كاف، لأنه يحجب عن الناظر الجهة التي تعرض منها المزية، لأن الفصاحة لابد أن يكون لها من سبب، وهذا السبب هو الأصل في الحكم على الكلام بالفصاحة، ومن ثم فهو يلح على ضرورة تجاوز الحكم إلى تحليله، والبحث له عن مقومات موضوعية يتسنى بفضلها معرفة فصاحة الكلام، فيقول "ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة، إنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة، أو ما أشبه ذلك من القول المجمل، كافيا في معرفتها، ومغنيا في العلم بها، لكفى مثله في معرفة الصناعات كلها...وإذا كان هذا هكذا، علمت أنه لا يكفي في علم (الفصاحة) أن تنصب لها قياسا ما، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شيء، حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل أجرة من الآجر الذي في البناء البديع"([28]).
والحقيقة أن عبد القاهر مصيب فيما ذهب إليه من ضرورة البحث عن باطن العلة في الإعجاز، وفي فصاحة الكلام، غير أن ما يؤخذ عليه أنه أورد عبارة عبد الجبار "أن المزية في الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة" مبتورة عن لواحقها، حيث ترك بقية النص الذي يفيد كما قلنا سابقا أن الفصاحة عنده تظهر من ثلاث جهات: الإبدال الذي تختص به الكلمات، وحركاتها في الإعراب، وموقعها في التقديم والتأخير، وهو ما يقصده عبد القاهر بنظرية النظم القائمة على معاني النحو يقول "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهله عاقلا ولا خفى على أحد من الناس، وإذا كان كذلك فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا في ذلك علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول أو تأكيدا له، أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى ذلك الحرف، وعلى هذا القياس"([29]). فمن الحق إذن أن نقول إن عبد الجبار قد توصل إلى فكرة النظم القائمة على معاني النحو. قالها في إيجاز شديد، وبصورة مجملة دون تحليلها تحليلا لغويا دقيقا يكشف عن طاقات اللغة، وما توفره للمستعمل من إمكانيات التركيب والتأليف، فالتقط الفكرة عبد القاهر الجرجاني وتناولها "بالتمديد والتفسير بأسلوبه العذب وقلمه الشائق، ويساعده كثرة محفوظه من اللغة، وثروته من عيون الشعر العربي"([30]). فأصبح فعلا صاحبها الذي صورها وطبقها واستخرج على أساسها علم المعاني المعروف الآن بين علوم البلاغة العربية. فلولا الخصومة الفكرية، والتعصب المذهبي، لما تحامل عبد القاهر الجرجاني على عبد الجبار، ولما اعتبره من دعاة اللفظ وأنصاره، ولا اعترف بفضله وبجهوده اللغوية، وبما اقتبسه عنه من آراء وأفكار مكنته من وضع نظرية النظم القائمة على توخي معاني النحو.
خلاصة:
في ختام هذا البحث نقول: إن القاضي عبد الجبار قد طور البحث في إعجاز القرآن تطويرا كبيرا، فنفى أن يكون الإعجاز في الوجوه التي كانت شائعة في عصره، واستقر رأيه على أن إعجاز القرآن يرجع إلى فصاحته التي انفرد بها، وهذه الفصاحة تقوم على جزالة اللفظ، وحسن المعنى على وجه لم تبلغه بلاغة البلغاء، وفصاحة الفصحاء، ولا تظهر هذه الفصاحة في أفراد الكلام، وإنما تظهر بانتظام الكلمات في التعبير، وتعلق بعضها ببعض في التأليف. وبذلك يكون القاضي عبد الجبار أول من انتبه لدور فكرة النحو والإعراب، وقيمته في النظم، التي كان لها خطرها في علوم البلاغة فيما بعد، إلا أن طغيان الجدال المنطقي، والمذهب الكلامي على أسلوبه في معالجة ثنائية اللفظ والمعنى، وقضية الإعجاز، حال بينه وبين إقامة نظرية أدبية لها مكانتها السامية في دنيا البلاغة والنقد. ومهما يكن من أمر، فقد أبقى القاضي عبد الجبار لعبد القاهر الجرجاني شرح نظريته في الفصاحة والإعجاز، وتفصيلها والتدليل عليها والدفاع عنها.
الهوامش:
([1]) النكت في إعجاز القرآن: باب الإيجاز وباب التجانس. و إعجاز القرآن، ضمن ثلاث كتب في إعجاز القرآنـ تحقيق محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، مصر، الطبعة الرابعة. الرماني، ص: 129 وما بعدها.
([2]) البيان العربي، دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب، ومناهجها ومصادرها الكبرى، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة الطبعة الثالثة، 1381هـ/ 1962م. د. بدوي طبانة: 134.
([3]) إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الثالثة، 1986م، منير سلطان: ص:87.
([4]) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة: دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1402هـ/1982م، من97 إلى 117.
([5]) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، ص: 63.
([6])محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي، دار الشروق. الطبعة الأولى. 1414هـ/1994م. ص:159.
([7]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة. الطبعة الثانية. 1410هـ/1989م. ص: 359.
([8]) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: تحقيق أمين الخولي: مطبعة دار الكتب القاهرة 1380هـ/1960م. 16/199.
([9])عبد الكريم الخطيب الإعجاز في دراسة السابقين. دار الفكر، مصر، الطبعة الأولى. 1974م. ص: 226.
([10]) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/201.
([11]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([12]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([13]) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الرابعة. 1998م.ص: 155.
([14]) المغنى في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق إبراهيم الأبياري وطه حسين، القاهرة 1381هـ/1961م: 7/3.
([15]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:81.
([16]) شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ: ، دار المعارف، الطبعة السادسة، ص: 117-118.
([17]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/197.
([18]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/357.
([19]) الرماني، النكت ضمن ثلاث كتب في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، دار المعارف مصر، الطبعة الرابعة.ص: 75.
([20]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/199.
([21]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([22]) المغني أبواب التوحيد والعدل: 16/199-200.
([23]) الجاحظ، الحيوان: 3/131-132.
([24]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:395.
([25]) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([26]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: 46-48.
([27]) بدوي طبانة، البيان العربي البيان العربي دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكبرى، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة. 1381هـ/1962م.186-187.
([28]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: ص:36-37.
([29]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: ص:55.
([30])عبد الفتاح لاشين، بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار،ص: 525.
([1]) النكت في إعجاز القرآن: باب الإيجاز وباب التجانس. و إعجاز القرآن، ضمن ثلاث كتب في إعجاز القرآنـ تحقيق محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، مصر، الطبعة الرابعة. الرماني، ص: 129 وما بعدها.
([2]) البيان العربي، دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب، ومناهجها ومصادرها الكبرى، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة الطبعة الثالثة، 1381هـ/ 1962م. د. بدوي طبانة: 134.
([3]) إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الثالثة، 1986م، منير سلطان: ص:87.
([4]) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة: دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1402هـ/1982م، من97 إلى 117.
([5]) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، ص: 63.
([6])محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي، دار الشروق. الطبعة الأولى. 1414هـ/1994م. ص:159.
([7]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة. الطبعة الثانية. 1410هـ/1989م. ص: 359.
([8]) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: تحقيق أمين الخولي: مطبعة دار الكتب القاهرة 1380هـ/1960م. 16/199.
([9])عبد الكريم الخطيب الإعجاز في دراسة السابقين. دار الفكر، مصر، الطبعة الأولى. 1974م. ص: 226.
([10]) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/201.
([11]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([12]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([13]) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الرابعة. 1998م.ص: 155.
([14]) المغنى في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق إبراهيم الأبياري وطه حسين، القاهرة 1381هـ/1961م: 7/3.
([15]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:81.
([16]) شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ: ، دار المعارف، الطبعة السادسة، ص: 117-118.
([17]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/197.
([18]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/357.
([19]) الرماني، النكت ضمن ثلاث كتب في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، دار المعارف مصر، الطبعة الرابعة.ص: 75.
([20]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/199.
([21]) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([22]) المغني أبواب التوحيد والعدل: 16/199-200.
([23]) الجاحظ، الحيوان: 3/131-132.
([24]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص:395.
([25]) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/200.
([26]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: 46-48.
([27]) بدوي طبانة، البيان العربي البيان العربي دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكبرى، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة. 1381هـ/1962م.186-187.
([28]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: ص:36-37.
([29]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: ص:55.
([30])عبد الفتاح لاشين، بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار،ص: 525.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق