بقلم الأستاذة مليكة حفان
تقديم
بلغ العرب في الجاهلية، مرتبة رفيعة من البلاغة والبيان والقدرة على صياغة الكلام، فأطالوا الشعر وافتنوا فيه وابتدعوا في أغراضه ومعانيه يدل على ذلك الشعر الذي تركوه، وتلك الآثار الأدبية التي خلفوها. ويصف الجاحظ الحالة اللغوية للعرب وقت نزول القرآن فيقول : " والكلام كلامهم وهو سيد عملهم، وقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيات والعقارب والذئاب والكلاب والخنافس والجعلان والحمير والحمام، وكل ما دب ودرج ولاح لعين، وخطر على قلب. ولهم بعد أصناف النظم وضروب التأليف،كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس والأسجاع المنثورة".( رسائل الجاحظ من كتاب حجج النبوة" 143 نقلا عن كتاب : بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار. عبد الفتاح لاشين : ص 430) .
ولاعجب في أن يكون الكلام سيد عملهم، فشعراء العرب أكثر من أن "يحبط بهم واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال " ( الشعر والشعراء : ابن قتيبة 1/8) . ولقد بلغ اهتمام العرب بالشعر في جاهليتهم أن عمدوا إلى مختارات من شعر العرب الرائق فعلقوها على ظهر الكعبة ، وهي أقدس بقعة وأول بيت وضع للناس. جاء في العقد الفريد أنه بلغ من شغف العرب بالشعر أن " عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال مذهبة " امرئ القيس، ومذهبة زهير ... والمذهبات السبع ، وقد يقال لها المعلقات " ( العقد الفريد 6/118).
ولقد بلغ اهتمام العرب بالشعر في جاهليتهم أنهم كانوا يحتفلون بمولد الشاعر في القبيلة، وكانت القبائل الأخرى تأتي لتهنئتها: " وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج " ( العمدة 1/65).
فتعليق القصائد الشعرية على ظهر الكعبة، والاحتفال بمولد الشاعر أكبر دليل على تقديس العرب للغتهم واحتفائهم بها .
ومن مظاهر ذلك الاحتفاء أنهم كانوا يقيمون الأسواق والمواسم التي يؤمها مختلف القبائل العربية، يتناشدون فيها الأشعار، ويتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها، وقد كان لهم من الشعراء النابهين من كان يقوم في هذه السوق مقام القاضي الذي لا تدفع حكومته، ففي أخبار النابغة الذبياني أن الشعراء الناشئين، كانوا يحتكمون فيها إليه، فمن نوه به طارت شهرته في الآفاق، وكان أثناء ذلك يبدي بعض الملاحظات على معاني الشعراء وأساليبهم، ويقال إنه فضل الأعشى على حسان بن ثابت، وفضل الخنساء على بنات جنسها، فثار حسان بن ثابت عليه قائلا "أنا والله أشعر منك ومنهما، فرد عليه النابغة حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَاِبني مُحَرَّقٍ فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِذا اِبنَما ([1])
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما
فقال له النابغة : "إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. وفي رواية أخرى قال له: إنك قلت الجفنات، فقللت العدد، ولو قلت الجفان، لكان أكثر، وقلت يلمعن في الضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى، لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت: يقطرن من نجدة دما، فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين، لكان أكثر لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك، فقام حسان منحسرا منقطعا".( الأغاني 21/112 ، طبعة الساسي ).
ولعل من آثار معرفتهم بضروب الكلام وتميزهم له أن كثيرين من كفارهم بهرهم القرآن لما استمعوا إليه وتعجبوا من بلاغته وأعلنوا عن علوه وسموه . وما شهادة الوليد بن المغيرة إلا مثلا لذلك حيث قال بعد استماعه لبعض آيات من القرآن الحكم: " والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته " ( الإتقان في علوم القرآن: 4/5 وانظر أيضا : سيرة ابن هشام 1/284) .
ولما كان العرب أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة، فقد شاءت قدرة الله تعالى أن تكون معجزة الرسول (ص) من جنس الفن الذي برع فيه قومه وبلغوا فيه الذروة .وقد جاء القرآن الكريم عربيا فصيحا مفصلا يخاطب العرب بلسانهم وباللغة التي يألفونها وبالكلمات التي يجيدون حبكها ونظمهما، لكنه فاق كلامهم ببراعة نظمه وإحكام تراكيبه، وظهر ذلك في عجز أفصح فصحائهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، بل كانت نماذج المحاكاة القليلة التي حاولها بعضهم مدعاة للسخرية وأوضح دلالة عن العجز .
1- خصائص البلاغة في القرن الثاني والثالث الهجريين :
كان المسلمون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وطوال القرن الأول للهجرة يدركون إعجاز القرآن، ومقومات وخصائص أسلوبه بفطرتهم اللغوية الصافية وبذوقهم الأصيل دون حاجة إلى تعيينهما بأسمائهما الاصطلاحية.
وابتداء من القرن الثاني الهجري، قامت حركة علمية نشيطة تبحث عن الوجوه التي صار بها القرآن معجزا فألفت الكتب العديدة، وقامت الدراسات المتنوعة، وكلها تهدف إلى الوقوف على كنه الإعجاز القرآني. وقد حرص العلماء في هذه المرحلة على بيان خصائص الأسلوب القرآني الذي صار به معجزا ومقابلته بالأسلوب العربي الذي يجري على نمطه القرآن بغية تحصين اللغة العربية وحمايتها، كي تبقى أداة أساسية لفهم كتاب الله. فإذا رجعنا إلى كتاب " مجاز القرآن" لأبي عبيدة ( ت 210هـ) نجده قد فاض بمأثور القول من منثور كلام العرب ومنظومه للتوصل بهذا المأثور إلى فهم المعاني القرآنية. فمن ذلك قوله في مجاز قوله تعالى :" واسأل القرية التي كنا فيها " ( يوسف 82)، أي اسأل أهلها، والعرب تفعل ذلك ، فتذكر المكان والمراد من فيه كما قال حميد بن ثور .
قصائد تستحلي الرواة نشيدها *** ويلهو بها من لاعب الحي سامر
يعض عليها الشيخ إبهام كفـه *** وتخزى بها أحياؤكم والمقابـر
أي أهل المقابر. ويضيف أبو عبيدة والعرب تقول : أكلت قدرا طيبة، أي أكلت ما فيها.
ويقول في قوله تعالى : "اعملوا ما شئتم" وقوله : " ومن شاء فليكفر ". إن هذا ظاهره الأمر وباطنه الزجر. وهو من سنن العرب ، تقول : إذا لم تستح فافعل ما شئت.
وقد سار ابن قتيبة ( ت 276هـ) على خطى أبي عبيدة في اتجاهه اللغوي وأفاد من نتائج دراسته في الدفاع عن أسلوب القرآن ، فما من آية فيها شبهة أو عبارة فيها خفاء إلا أورد لها نظائر من مأثور القول عند العرب البلغاء والفصحاء المشهود لهم بالتمكن من صناعتهم وبرهن على أن نظم القرآن يحتذي أساليب العرب في الكلام وسننهم في وسائل الإبانة عن المعنى ومن أمثلة ذلك ما نقله من قولهم، في قول الله تعالى للسماء والأرض " ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين " ( فصلت آية 10) .
قال المشككون في كتاب الله: لم يقل الله ولم يقولا، وكيف يخاطب معدوما؟ وإنما هذا عبارة عن: لكوناهما فكانتا. ويرد عليهم ابن قتيبة: إن القول يقع فيه المجاز، فيقال قال الحائط : فمال ، وقل برأسك إلي: أي أمله ، وقالت الناقة وقال البعير . ويستشهد على صحة قوله بقول الشاعر العربي المثقب العبدي :
تقول إذا درأت لها وضيني *** أهذا دينه أبدا ودينـي
أكل الدهر حل وترحال *** أما يبقي علي ولا يقيني ([2])
ويعلق ابن قتيبة على هذين البيتين : " وهي لم تقل شيئا من هذا، ولكنه رآها في حال من الجهد والكلال فقضى عليها بأنها لو كانت ممن تقول لقالت مثل الذي ذكر " ( تأويل مشكل القرآن 106-107) .
نخلص إذن إلى أن أبا عبيدة، وابن قتيبة كغيرهما من علماء هذه المرحلة قد عالجوا كيفية التوصل إلى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في الكـلام ، وسننهم في وسائل الإبانة والبيان حين أحسوا بحاجة الناس إلى وصل حاضر اللغة بسالفها.
2- خصائص البلاغة في القرن الرابع الهجري :
مع بداية القرن الرابع الهجري تطورت هذه الدراسات من الدفاع عن عربية القرآن إلى البحث في خصائص هذا الأسلوب والبرهنة على إعجاز النص القرآني، كما نلمس ذلك في كتاب " النكت في إعجاز القرآن" للرماني وكتــــاب " إعجاز القرآن" للباقلاني . وقد احتلت البلاغة عند هؤلاء العلماء مكانة بارزة باعتبارها الطريق الموصل إلى معرفة بلاغة القرآن وإعجازه. وقد اعتبر الرماني إعجاز القرآن كامنا في بلاغته المتناهية التي خرق بها عادة العرب في الكلام وأساليبهم في النظم، فعدها وجها من وجوه الإعجاز السبعة (*)([3]) ويقسم الرماني بلاغة القرآن إلى عشرة أقسام هي : الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان . وقد تناول هذه الأقسام تناولا فنيا وفصل القول فيها ومثل لها بكثير من الآيات القرآنية التي تبين وجوه البلاغة في القرآن .
وما يمكن ملاحظته خلال هذا القرن، أن علم البلاغة أخذ يجنح إلى التخفف من سلطة فكرة الإعجاز التي ظلت مسيطرة على أذهان الباحثين، فأصبحت البلاغة علما مستقلا له أصوله وقضاياه العلمية الخاصة وله مباحثه المستقلـة وقضاياه المتميزة، على أن القواعد البلاغية ظلت في هذا القرن مختلطة بمسائل النقد الأدبي في أكثر الأحيان. وهذا أمر طبيعي لأن موضوع البلاغة وموضوع النقد واحد وهو فن الأدب .
وقد زخر القرن الرابع بطائفة من العلماء الأفذاذ وبكثير من البحوث المتخصصة في البلاغة التي استوعبت جهات البحث فيها وتعددت مناهجها بحسب اختلاف العقليات التي أملتها، ويكفي أن يكون من بين الآثار التي خلفها هذا القرن " عيار الشعر لابن طباطبا" ، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر ، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي ، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري .
3- خصائص البلاغة في القرن الخامس الهجري :
وإذا وصلنا إلى القرن الخامس الهجري، نجد البلاغة قد وصلت قمة النضج والازدهار على يد عبد القاهر الجرجاني ( ت 471هـ) في كتابيه " دلائل الإعجاز" . و " أسرار البلاغة" . لقد اختار عبد القاهر الجرجاني أن يكون النظم هو مقياس التفاضل بين كلام وكلام وإليه أرجع إعجاز القرآن ، ومعنى النظم عنده هو: "توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم " ( دلائل الإعجاز ص 392) .
إن نظرية النظم عند الجرجاني نظرية شاملة لا تبحث في جوانب تفصيلية كالمفردات اللغوية أو الأوزان أو الحركات أو الاستعارات ، وإنما تبحث في التأليف والنظم مع مراعاة قواعد النحو وقوانينه .
فالكلمة المفردة لا قيمة لها قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي يفيد بها الكلام غرضا من أغراضه في الإخبار والأمر والنهي والاستخبار والتعجب. وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة ، وليس بين اللفظتين تفاضل في الدلالة، حتى تكون إحداهما أدل على معناها الذي وضعت له من الأخرى . وعلى هذا الأساس فمفهوم النحو عند عبد القاهر الجرجاني لا يقتصر على جانب الصحة أو التركيب النحوي وإنما يتعدى هذا ليشمل تركيب الجملة وتأليفها وفق ما يقتضي المعنى ويتطلب.
والقرآن الكريم عند عبد القاهر بناء لغوي في الدرجة الأولى مثل أي نص أدبي، ومن ثم علينا أن ننشد أسرار جماله الفني في تحليل بنائه اللغوي الذي يرجع إليه وحده كل ما في كتاب الله العزيز من جمال وروعة، وعلى أساس نظريته في النظم، مضى عبد القاهر يعرض لفصاحة الذكر الحكيم المعجزة، وردها إلى أداء الكلام وخواص التركيب، وما يجري فيها من نسب نحوية، فحلل في مواضع مختلفة من كتابه " دلائل الإعجاز" آيات كثيرة من الذكر الحكيم تحليلا فنيا بارعا مبينا ما فيها من سمات أسلوبه الدقيق ونظمه الرائع مثل قوله تعالى :" وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " ( هود: 44) .فيشرح كيف أن الجمال الفني في الآية إنما مرده إلى الطريقة التي صيغت بها هذه الآية والأسلوب الذي نظمت به. أما الألفاظ من حيث هي كلمات مفردة ، فليس لها من المزية والروعة ما هو لها وهي في الآية . فيقول : " وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى : ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) ، فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع ، أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلمات بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها. إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية ؟ قل ( ابلغي) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها. وكذلك فاعتبر سائر ما يليها " ( دلائل الإعجاز ص: 45) .
هذه إحدى وقفات الجرجاني في طريقه للكشف عن وجوه الإعجاز في القرآن ودلائله، فالحسن في الآية أتى من قبل نظم الجملة على النحو المذكور، حيث قدم فيه لفظ على لفظ، ووضعت كل كلمة في مكانها المناسب لضمان الاتساق والاتفاق في الكلام، فإذا انفصلت عن السياق أو عن التعبير الذي وردت فيه فسدت الآية وفقدت قيمتها الحقيقية، ولتقريب الصورة نضرب مثالا آخر من الشعر يقول امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فمتى قرأنا شطرا البيت على هذا النسق في الترتيب، وأبقينا على نظامه الذي عليه بني، وجدناه في كمال البيان، أما إذا أزلنا أجزاءه عن مواضعها، ووضعناها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها، فقلنا في الشطر الأول من البيت (من يبك قفا حبيب ذكرى منزل) خرجنا به إلى الهذيان.
4- خصائص البلاغة ابتداء من القرن السادس الهجري:
يبدو أن جذوة البحث البلاغي التي اشتعلت في القرن الثالث الهجري وتوهجت مباحثه في القرون الثلاثة التالية، انتابتها نوبة طويلة من الجمود والركود، فمنذ نهاية القرن السادس الهجري عرف البحث البلاغي انتكاسة على يد مدرسة التقعيد والتقنين التي كان رائدها أبو يعقوب السكاكي (تـ 626هـ) ومن بعده أصحاب الشروح والحواشي.
فإذا رجعنا إلى كتاب مفتاح العلوم للسكاكي، نجد أن عقلية السكاكي المنطقية قد هدته إلى محاولة تقنين البلاغة العربية وتبويبها وإخضاعها للتعقيد، بيد أن محاولته هذه، جعلت البلاغة كعلم وفن تفقد أهم وظائفها وخصائصها وهو البحث في جوانب الجمال الفني في العمل الأدبي، وهي حين تبتعد عن هذه الوظيفة تصبح قواعد جامدة لا تخدم الذوق ولا تنمي الملكات. وحسبنا دليلا على هذا التقسيم المنطقي الذي أخضع له علم البلاغة، تقسيمه علم المعاني وعلم البيان إلى عدة أقسام، وتقسيم الأقسام إلى فروع، والفروع إلى مجموعة من الشعب.
فبالنسبة للمجاز مثلا وهو أحد أصول علم البيان عنده، قسمه إلى مجموعة من الفصول: الفصل الأول: المجاز اللغوي غير المفيد- الفصل الثاني: المجاز اللغوي المفيد- الفصل الثالث: الاستعارة – الفصل الرابع: في المجاز اللغوي الراجع إلى حكم الكلمة - الفصل الخامس: المجاز العقلي. ولا يكتفي السكاكي بتفريع هذا الأصل (المجاز) إلى مجموعة فصول، وإنما يقسم بعض هذه الفصول إلى مجموعة من الأقسام: القسم الأول الاستعارة التصريحية – القسم الثاني الاستعارة التخييلية – القسم الثالث: الاستعارة المحتملة للتحقيق والتخييل – القسم الرابع: الاستعارة بالكناية – القسم الخامس: الاستعارة الأصلية – القسم السادس: الاستعارة بالتبعية.
وبهذا التقسيم الدقيق بالغ الصرامة والحسم، حصر السكاكي كل مباحث علم المعاني والبيان، على نحو نهائي، ما زال يسيطر على فن التأليف البلاغي حتى عصرنا الحاضر، فكل الكتب التي ألفت بعد هذا الكتاب تعد امتدادا له بشكل أو بآخر، فهي إما شروح عليه أو تلخيص له، أو نسيج على منواله.
تقديم
بلغ العرب في الجاهلية، مرتبة رفيعة من البلاغة والبيان والقدرة على صياغة الكلام، فأطالوا الشعر وافتنوا فيه وابتدعوا في أغراضه ومعانيه يدل على ذلك الشعر الذي تركوه، وتلك الآثار الأدبية التي خلفوها. ويصف الجاحظ الحالة اللغوية للعرب وقت نزول القرآن فيقول : " والكلام كلامهم وهو سيد عملهم، وقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيات والعقارب والذئاب والكلاب والخنافس والجعلان والحمير والحمام، وكل ما دب ودرج ولاح لعين، وخطر على قلب. ولهم بعد أصناف النظم وضروب التأليف،كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس والأسجاع المنثورة".( رسائل الجاحظ من كتاب حجج النبوة" 143 نقلا عن كتاب : بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار. عبد الفتاح لاشين : ص 430) .
ولاعجب في أن يكون الكلام سيد عملهم، فشعراء العرب أكثر من أن "يحبط بهم واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال " ( الشعر والشعراء : ابن قتيبة 1/8) . ولقد بلغ اهتمام العرب بالشعر في جاهليتهم أن عمدوا إلى مختارات من شعر العرب الرائق فعلقوها على ظهر الكعبة ، وهي أقدس بقعة وأول بيت وضع للناس. جاء في العقد الفريد أنه بلغ من شغف العرب بالشعر أن " عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال مذهبة " امرئ القيس، ومذهبة زهير ... والمذهبات السبع ، وقد يقال لها المعلقات " ( العقد الفريد 6/118).
ولقد بلغ اهتمام العرب بالشعر في جاهليتهم أنهم كانوا يحتفلون بمولد الشاعر في القبيلة، وكانت القبائل الأخرى تأتي لتهنئتها: " وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج " ( العمدة 1/65).
فتعليق القصائد الشعرية على ظهر الكعبة، والاحتفال بمولد الشاعر أكبر دليل على تقديس العرب للغتهم واحتفائهم بها .
ومن مظاهر ذلك الاحتفاء أنهم كانوا يقيمون الأسواق والمواسم التي يؤمها مختلف القبائل العربية، يتناشدون فيها الأشعار، ويتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها، وقد كان لهم من الشعراء النابهين من كان يقوم في هذه السوق مقام القاضي الذي لا تدفع حكومته، ففي أخبار النابغة الذبياني أن الشعراء الناشئين، كانوا يحتكمون فيها إليه، فمن نوه به طارت شهرته في الآفاق، وكان أثناء ذلك يبدي بعض الملاحظات على معاني الشعراء وأساليبهم، ويقال إنه فضل الأعشى على حسان بن ثابت، وفضل الخنساء على بنات جنسها، فثار حسان بن ثابت عليه قائلا "أنا والله أشعر منك ومنهما، فرد عليه النابغة حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَاِبني مُحَرَّقٍ فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِذا اِبنَما ([1])
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما
فقال له النابغة : "إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. وفي رواية أخرى قال له: إنك قلت الجفنات، فقللت العدد، ولو قلت الجفان، لكان أكثر، وقلت يلمعن في الضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى، لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت: يقطرن من نجدة دما، فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين، لكان أكثر لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك، فقام حسان منحسرا منقطعا".( الأغاني 21/112 ، طبعة الساسي ).
ولعل من آثار معرفتهم بضروب الكلام وتميزهم له أن كثيرين من كفارهم بهرهم القرآن لما استمعوا إليه وتعجبوا من بلاغته وأعلنوا عن علوه وسموه . وما شهادة الوليد بن المغيرة إلا مثلا لذلك حيث قال بعد استماعه لبعض آيات من القرآن الحكم: " والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته " ( الإتقان في علوم القرآن: 4/5 وانظر أيضا : سيرة ابن هشام 1/284) .
ولما كان العرب أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة، فقد شاءت قدرة الله تعالى أن تكون معجزة الرسول (ص) من جنس الفن الذي برع فيه قومه وبلغوا فيه الذروة .وقد جاء القرآن الكريم عربيا فصيحا مفصلا يخاطب العرب بلسانهم وباللغة التي يألفونها وبالكلمات التي يجيدون حبكها ونظمهما، لكنه فاق كلامهم ببراعة نظمه وإحكام تراكيبه، وظهر ذلك في عجز أفصح فصحائهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، بل كانت نماذج المحاكاة القليلة التي حاولها بعضهم مدعاة للسخرية وأوضح دلالة عن العجز .
1- خصائص البلاغة في القرن الثاني والثالث الهجريين :
كان المسلمون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وطوال القرن الأول للهجرة يدركون إعجاز القرآن، ومقومات وخصائص أسلوبه بفطرتهم اللغوية الصافية وبذوقهم الأصيل دون حاجة إلى تعيينهما بأسمائهما الاصطلاحية.
وابتداء من القرن الثاني الهجري، قامت حركة علمية نشيطة تبحث عن الوجوه التي صار بها القرآن معجزا فألفت الكتب العديدة، وقامت الدراسات المتنوعة، وكلها تهدف إلى الوقوف على كنه الإعجاز القرآني. وقد حرص العلماء في هذه المرحلة على بيان خصائص الأسلوب القرآني الذي صار به معجزا ومقابلته بالأسلوب العربي الذي يجري على نمطه القرآن بغية تحصين اللغة العربية وحمايتها، كي تبقى أداة أساسية لفهم كتاب الله. فإذا رجعنا إلى كتاب " مجاز القرآن" لأبي عبيدة ( ت 210هـ) نجده قد فاض بمأثور القول من منثور كلام العرب ومنظومه للتوصل بهذا المأثور إلى فهم المعاني القرآنية. فمن ذلك قوله في مجاز قوله تعالى :" واسأل القرية التي كنا فيها " ( يوسف 82)، أي اسأل أهلها، والعرب تفعل ذلك ، فتذكر المكان والمراد من فيه كما قال حميد بن ثور .
قصائد تستحلي الرواة نشيدها *** ويلهو بها من لاعب الحي سامر
يعض عليها الشيخ إبهام كفـه *** وتخزى بها أحياؤكم والمقابـر
أي أهل المقابر. ويضيف أبو عبيدة والعرب تقول : أكلت قدرا طيبة، أي أكلت ما فيها.
ويقول في قوله تعالى : "اعملوا ما شئتم" وقوله : " ومن شاء فليكفر ". إن هذا ظاهره الأمر وباطنه الزجر. وهو من سنن العرب ، تقول : إذا لم تستح فافعل ما شئت.
وقد سار ابن قتيبة ( ت 276هـ) على خطى أبي عبيدة في اتجاهه اللغوي وأفاد من نتائج دراسته في الدفاع عن أسلوب القرآن ، فما من آية فيها شبهة أو عبارة فيها خفاء إلا أورد لها نظائر من مأثور القول عند العرب البلغاء والفصحاء المشهود لهم بالتمكن من صناعتهم وبرهن على أن نظم القرآن يحتذي أساليب العرب في الكلام وسننهم في وسائل الإبانة عن المعنى ومن أمثلة ذلك ما نقله من قولهم، في قول الله تعالى للسماء والأرض " ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين " ( فصلت آية 10) .
قال المشككون في كتاب الله: لم يقل الله ولم يقولا، وكيف يخاطب معدوما؟ وإنما هذا عبارة عن: لكوناهما فكانتا. ويرد عليهم ابن قتيبة: إن القول يقع فيه المجاز، فيقال قال الحائط : فمال ، وقل برأسك إلي: أي أمله ، وقالت الناقة وقال البعير . ويستشهد على صحة قوله بقول الشاعر العربي المثقب العبدي :
تقول إذا درأت لها وضيني *** أهذا دينه أبدا ودينـي
أكل الدهر حل وترحال *** أما يبقي علي ولا يقيني ([2])
ويعلق ابن قتيبة على هذين البيتين : " وهي لم تقل شيئا من هذا، ولكنه رآها في حال من الجهد والكلال فقضى عليها بأنها لو كانت ممن تقول لقالت مثل الذي ذكر " ( تأويل مشكل القرآن 106-107) .
نخلص إذن إلى أن أبا عبيدة، وابن قتيبة كغيرهما من علماء هذه المرحلة قد عالجوا كيفية التوصل إلى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في الكـلام ، وسننهم في وسائل الإبانة والبيان حين أحسوا بحاجة الناس إلى وصل حاضر اللغة بسالفها.
2- خصائص البلاغة في القرن الرابع الهجري :
مع بداية القرن الرابع الهجري تطورت هذه الدراسات من الدفاع عن عربية القرآن إلى البحث في خصائص هذا الأسلوب والبرهنة على إعجاز النص القرآني، كما نلمس ذلك في كتاب " النكت في إعجاز القرآن" للرماني وكتــــاب " إعجاز القرآن" للباقلاني . وقد احتلت البلاغة عند هؤلاء العلماء مكانة بارزة باعتبارها الطريق الموصل إلى معرفة بلاغة القرآن وإعجازه. وقد اعتبر الرماني إعجاز القرآن كامنا في بلاغته المتناهية التي خرق بها عادة العرب في الكلام وأساليبهم في النظم، فعدها وجها من وجوه الإعجاز السبعة (*)([3]) ويقسم الرماني بلاغة القرآن إلى عشرة أقسام هي : الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والفواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان . وقد تناول هذه الأقسام تناولا فنيا وفصل القول فيها ومثل لها بكثير من الآيات القرآنية التي تبين وجوه البلاغة في القرآن .
وما يمكن ملاحظته خلال هذا القرن، أن علم البلاغة أخذ يجنح إلى التخفف من سلطة فكرة الإعجاز التي ظلت مسيطرة على أذهان الباحثين، فأصبحت البلاغة علما مستقلا له أصوله وقضاياه العلمية الخاصة وله مباحثه المستقلـة وقضاياه المتميزة، على أن القواعد البلاغية ظلت في هذا القرن مختلطة بمسائل النقد الأدبي في أكثر الأحيان. وهذا أمر طبيعي لأن موضوع البلاغة وموضوع النقد واحد وهو فن الأدب .
وقد زخر القرن الرابع بطائفة من العلماء الأفذاذ وبكثير من البحوث المتخصصة في البلاغة التي استوعبت جهات البحث فيها وتعددت مناهجها بحسب اختلاف العقليات التي أملتها، ويكفي أن يكون من بين الآثار التي خلفها هذا القرن " عيار الشعر لابن طباطبا" ، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر ، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي ، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري .
3- خصائص البلاغة في القرن الخامس الهجري :
وإذا وصلنا إلى القرن الخامس الهجري، نجد البلاغة قد وصلت قمة النضج والازدهار على يد عبد القاهر الجرجاني ( ت 471هـ) في كتابيه " دلائل الإعجاز" . و " أسرار البلاغة" . لقد اختار عبد القاهر الجرجاني أن يكون النظم هو مقياس التفاضل بين كلام وكلام وإليه أرجع إعجاز القرآن ، ومعنى النظم عنده هو: "توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم " ( دلائل الإعجاز ص 392) .
إن نظرية النظم عند الجرجاني نظرية شاملة لا تبحث في جوانب تفصيلية كالمفردات اللغوية أو الأوزان أو الحركات أو الاستعارات ، وإنما تبحث في التأليف والنظم مع مراعاة قواعد النحو وقوانينه .
فالكلمة المفردة لا قيمة لها قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي يفيد بها الكلام غرضا من أغراضه في الإخبار والأمر والنهي والاستخبار والتعجب. وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة ، وليس بين اللفظتين تفاضل في الدلالة، حتى تكون إحداهما أدل على معناها الذي وضعت له من الأخرى . وعلى هذا الأساس فمفهوم النحو عند عبد القاهر الجرجاني لا يقتصر على جانب الصحة أو التركيب النحوي وإنما يتعدى هذا ليشمل تركيب الجملة وتأليفها وفق ما يقتضي المعنى ويتطلب.
والقرآن الكريم عند عبد القاهر بناء لغوي في الدرجة الأولى مثل أي نص أدبي، ومن ثم علينا أن ننشد أسرار جماله الفني في تحليل بنائه اللغوي الذي يرجع إليه وحده كل ما في كتاب الله العزيز من جمال وروعة، وعلى أساس نظريته في النظم، مضى عبد القاهر يعرض لفصاحة الذكر الحكيم المعجزة، وردها إلى أداء الكلام وخواص التركيب، وما يجري فيها من نسب نحوية، فحلل في مواضع مختلفة من كتابه " دلائل الإعجاز" آيات كثيرة من الذكر الحكيم تحليلا فنيا بارعا مبينا ما فيها من سمات أسلوبه الدقيق ونظمه الرائع مثل قوله تعالى :" وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " ( هود: 44) .فيشرح كيف أن الجمال الفني في الآية إنما مرده إلى الطريقة التي صيغت بها هذه الآية والأسلوب الذي نظمت به. أما الألفاظ من حيث هي كلمات مفردة ، فليس لها من المزية والروعة ما هو لها وهي في الآية . فيقول : " وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى : ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) ، فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع ، أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلمات بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها. إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية ؟ قل ( ابلغي) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها. وكذلك فاعتبر سائر ما يليها " ( دلائل الإعجاز ص: 45) .
هذه إحدى وقفات الجرجاني في طريقه للكشف عن وجوه الإعجاز في القرآن ودلائله، فالحسن في الآية أتى من قبل نظم الجملة على النحو المذكور، حيث قدم فيه لفظ على لفظ، ووضعت كل كلمة في مكانها المناسب لضمان الاتساق والاتفاق في الكلام، فإذا انفصلت عن السياق أو عن التعبير الذي وردت فيه فسدت الآية وفقدت قيمتها الحقيقية، ولتقريب الصورة نضرب مثالا آخر من الشعر يقول امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فمتى قرأنا شطرا البيت على هذا النسق في الترتيب، وأبقينا على نظامه الذي عليه بني، وجدناه في كمال البيان، أما إذا أزلنا أجزاءه عن مواضعها، ووضعناها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها، فقلنا في الشطر الأول من البيت (من يبك قفا حبيب ذكرى منزل) خرجنا به إلى الهذيان.
4- خصائص البلاغة ابتداء من القرن السادس الهجري:
يبدو أن جذوة البحث البلاغي التي اشتعلت في القرن الثالث الهجري وتوهجت مباحثه في القرون الثلاثة التالية، انتابتها نوبة طويلة من الجمود والركود، فمنذ نهاية القرن السادس الهجري عرف البحث البلاغي انتكاسة على يد مدرسة التقعيد والتقنين التي كان رائدها أبو يعقوب السكاكي (تـ 626هـ) ومن بعده أصحاب الشروح والحواشي.
فإذا رجعنا إلى كتاب مفتاح العلوم للسكاكي، نجد أن عقلية السكاكي المنطقية قد هدته إلى محاولة تقنين البلاغة العربية وتبويبها وإخضاعها للتعقيد، بيد أن محاولته هذه، جعلت البلاغة كعلم وفن تفقد أهم وظائفها وخصائصها وهو البحث في جوانب الجمال الفني في العمل الأدبي، وهي حين تبتعد عن هذه الوظيفة تصبح قواعد جامدة لا تخدم الذوق ولا تنمي الملكات. وحسبنا دليلا على هذا التقسيم المنطقي الذي أخضع له علم البلاغة، تقسيمه علم المعاني وعلم البيان إلى عدة أقسام، وتقسيم الأقسام إلى فروع، والفروع إلى مجموعة من الشعب.
فبالنسبة للمجاز مثلا وهو أحد أصول علم البيان عنده، قسمه إلى مجموعة من الفصول: الفصل الأول: المجاز اللغوي غير المفيد- الفصل الثاني: المجاز اللغوي المفيد- الفصل الثالث: الاستعارة – الفصل الرابع: في المجاز اللغوي الراجع إلى حكم الكلمة - الفصل الخامس: المجاز العقلي. ولا يكتفي السكاكي بتفريع هذا الأصل (المجاز) إلى مجموعة فصول، وإنما يقسم بعض هذه الفصول إلى مجموعة من الأقسام: القسم الأول الاستعارة التصريحية – القسم الثاني الاستعارة التخييلية – القسم الثالث: الاستعارة المحتملة للتحقيق والتخييل – القسم الرابع: الاستعارة بالكناية – القسم الخامس: الاستعارة الأصلية – القسم السادس: الاستعارة بالتبعية.
وبهذا التقسيم الدقيق بالغ الصرامة والحسم، حصر السكاكي كل مباحث علم المعاني والبيان، على نحو نهائي، ما زال يسيطر على فن التأليف البلاغي حتى عصرنا الحاضر، فكل الكتب التي ألفت بعد هذا الكتاب تعد امتدادا له بشكل أو بآخر، فهي إما شروح عليه أو تلخيص له، أو نسيج على منواله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العنقاء : ثعلبة بن عمرو مزيقياء أحد أجداد الأزد القدماء في اليمن، ومعروف أن الخزرج قبيلة حسان أزدية. ويريد بالمحرق جبلة بن الحارث أمير الغساسنة في الشام لأوائل القرن السادس الميلادي، وهم أيضا من الأزد .
([2])– الوضين : بطان عريض منسوج من سبور أو شعر ، ودرأت وطين البعير إذا بسطته على الأرض ثم أبركته عليه لتشده به .
([3])وجوه الإعجاز عند الرمان سبعة وهي : ترك المعارضة مع توفر الدواعي، والتصدي للكافة والصرفة والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجزة .
(1) العنقاء : ثعلبة بن عمرو مزيقياء أحد أجداد الأزد القدماء في اليمن، ومعروف أن الخزرج قبيلة حسان أزدية. ويريد بالمحرق جبلة بن الحارث أمير الغساسنة في الشام لأوائل القرن السادس الميلادي، وهم أيضا من الأزد .
([2])– الوضين : بطان عريض منسوج من سبور أو شعر ، ودرأت وطين البعير إذا بسطته على الأرض ثم أبركته عليه لتشده به .
([3])وجوه الإعجاز عند الرمان سبعة وهي : ترك المعارضة مع توفر الدواعي، والتصدي للكافة والصرفة والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجزة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق