بقلم الأستاذة: مليكة حفان
تقديم:
نزل القرآن الكريم والعرب في أوج عظمتهم البيانية، وقمة بلاغتهم وفصاحتهم اللغوية، فجاء القرآن الكريم عربيا فصيحا، يخاطب فطرة العرب بلسانهم وباللغة التي يألفونها وبالكلمات التي يجيدون حبكها ونظمها، ليحصل لهم التمكن من المعارضة ثم يعجزون عنها فتقام عليهم الحجة، وابتداء من القرن الثاني الهجري، قامت حركة علمية نشيطة تبحث عن الوجوه التي صار بها القرآن معجزا، فألفت الكتب العديدة، وقامت الدراسات المتنوعة، وكلها تهدف إلى الوقوف على كنه الإعجاز القرآني، فمنهم من رد إعجازه لإخباره عن تاريخ الأنبياء والأمم الماضية والأمور المستقبلة، ومنهم من رد إعجازه لتأثيره في النفوس وصنيعه في القلوب، ومنهم من قال بأنه معجز، من جهة صرف الله العرب عن معارضته. إلا أن معظم العلماء اتفقوا على أن إعجازه يمكن في فصاحته وبلاغته التي لم تبلغها بلاغة البلغاء وفصاحة الفصحاء ، والسؤال الذي كان يطرح نفسه في هذا المقام هو: ما وجه بلاغة وفصاحة هذا الكلام الذي صح به التحدي ووقع به الإعجاز؟ أفي كلماته المفردة من حيث سلامتها في نفسها وذاتها وبعدها عن الغرابة والوحشية؟ أم في بلاغة معانيه وسموها؟ أم في نظم هذه الكلمات وتأليفها حين يضم بعضها إلى بعض، فيقع بينها تجانس وتناسب والتحام
1- في الكشف عن معنى الفصاحة :
أ- الفصاحة في اللغة والاصطلاح:
الفصاحة في اللغة : الظهور والبيان ، نقول : أفصح الصبح إذا ظهر، وأفصح الصبي في منطقه إذا بان وظهر كلامه .
والفصاحة في الاصطلاح حسب علماء اللغة والبيان توصف بها الكلمة المفردة كما يوصف بها الكلام .
ب – فصاحــة الكلمــة : ففصاحة الكلمة عبارة عن سلامتها من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي بمعنى أن فصاحة الكلمة هي أن تكون واضحة مألوفة متلائمة الحروف مطابقة للاستعمال اللغـــــوي .
1- فتنافر الحروف : وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعلى السمع كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته ، فقال تركتها ترعى الهعخع (اسم شجر أو بنات ترعاه الإبل).
وكقول امرئ القيس :
عدائره مستشزرات إلى العلا *** تضل العقاص في مثنى ومرسل ([1])
وسبب ثقل : مستشزر : توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة .
2- والغرابة: أن تكون الكلمة وحشية ([2]) لا يظهر معناها ، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقر في كتب اللغة، كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس، فقال : مالكم تكأكأتم علي تكأكأكم على ذي جنة .
كلمة تكأكأ: ( بمعنى اجتمع) قيل أن الكلمة غير فصيحة لغرابتها .
ومثله كلمة الجرشي في قول المتنبي :
مبارك الاسم أغر اللقب *** كريم الجرشى شريف النسب ([3]).
3- مخالفة القياس : أي كون الكلمة غير جارية على القانون الصرفـــــــــي " كجمع بوق" على " بوقات" في قول المتنبي .
فإن يك بعض الناس سيفا لدولة *** ففي الناس بوقات لها وطبول
إذ القياس في جمعه للقلة ( أبواق) وقوله :" بوقات" مخالف للقياس
وكلفظ " الأجلل" في قول الشاعر :
الحمد العلي " الأجلل *** الواهب الفضل الكريم المزجل
فإن القياس : الأجل بالإدغام، والذي ألجأ إلى فك الإدغام ضرورة الشعر. ولكن الفك في موضع الإدغام لا يعتبر فصاحة لمخالفة القياس .
ج- فصاحـة الكلام : أما فصاحة الكلام : فهي سلامته من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات مجتمعه والتعقيد. مع فصاحة كلماته. لأن فصاحة الكلمة شرط في فصاحة الكلام فلو خلا من الثلاثة ، واشتمل على كلمة غير فصيحة لم يكن فصيحا. وذلك كقول أبي الطيب المتنبي الذي ذكرناه سابقا .
مبارك الاسم أغر اللقب *** كريم الجرشى شريف النسب
1- ضعف التأليف : كون الكلام غير جار على القانون النحوي المشهور ( أي لو كان غير جار على القانون النحوي المتفق عليه فهذا لا يصلح أصلا، فلا يقال : إنه كلام غير فصيح، بل يقال إنه كلام فاسد لا تجيزه اللغة بأي حال من الأحوال)
مثال ذلك الإضمار قبل الذكر لفظا ورتبة ، كما في قول الشاعر
لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا *** وكاد لو ساعد المقدور ينتصر
وقول الشاعر :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر *** وحسن فعل كما يجزى سنمار
فالهاء في :(... بنوه أبا الغيلان) و ( طالبوه مصعبا) متصلة بالفاعل، وهي تعود على المفعول به، فهي عائدة على متأخر لفظا ورتبة، وهذا مخالف للقانون المشهور، إذ إن المشهور أن الضمير لا يعود على متأخر لفظا ورتبة .
2- تنافر الكلمات : وصف في الكلام تكون بسببه الكلمات متناهية في الثقل على اللسان وعلى السمع، ويعسر النطق بها متتالية، كما في البيت الذي أنشده الجاحظ :
وقبر حرب بمكان قفر *** وليس قرب قبر حرب قبر
فلو نظرنا إلى الكلمات التالية: " قبر" قرب " حرب" ليس فيها تنافر بالنسبة للكلمة الواحدة، لكن ضم بعضها إلى بعض يوجب التنافر، فيقال الكلام غير فصيح لتنافر كلماته .
ومنه ما دون ذلك في التنافر كما في قول أبي تمام :
كريم متى أمدحه والورى *** معي وإذا لمته لمته وحدي
فهذا البيت قوي جدا في الثناء على الممدوح " أي أني إذا مدحته فالورى كلهم يمدحونه، وإذا لمته لم يلمه أحد" لكنه من جهة البلاغة غير فصيح لأن كلماته متنافرة، لأن في قوله أمدحه أمدحه ثقلا لما بين الحاء والهاء من التنافر .
3- التعقيــــــد : وهو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد وهو نوعان: تعقيد من جهة اللفظ : ويكون بسبب تقديم الكلمات أو تأخيرها عن مواطنها الأصلية أو بالفصل بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض فيصعب فهم المعنى كقول الشاعر :
حلفت له بالله يوم التفرق *** وبالوجد من قلبي به المتعلق .
فالتعقيد في البيت راجع إلى فصل النعت ( المتعلق) عن منعوته ( قلبي) بالجار والمجرور .
وقول أبي الطيب المتنبي :
أنى يكون أبا البرية آدم *** وأبوك والثقلان أنت محمد
والوضع الصحيح أن يقول : كيف يكون آدم أب البرية، وأبوك محمد، وأنت الثقلان؟ يعني أنه قد جمع ما في الخليفة من الفضل والكمال، فقد فصل بين المبتدأ والخبر وهما " أبوك محمد" وقدم الخبر على المبتدأ تقديما قد يدعو إلى اللبس في قولـــــه " والثقلان أنت". أما التعقيد من جهة المعنى فهو أن يعمد المتكلم إلى التعبير عن معنى فيستعمل مجازات وكنايات لا يفهم المراد بها، أي أن الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد لا يكون ظاهرا، فلا يفهمه السامع، نحو قولك :" نشر الملك ألسنته في المدينة". لو كنى بألسنته وأراد خطباءه لكان فصيحا غير معقد، لكنه يريد جواسيسه، وهذا غير صحيح بعيد المعنى إذ أن الجواسيس يسمون عيونا. فهذا الكلام غير فصيح لأن فيه تعقيدا معنويا والصواب أن يقـول : " نشر عيونه" .
ومنه أيضا : قول عباس بن الأحنف .
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
دل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن وأصاب لأن من شان البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله ( لتجمدا) ، لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء وغلط فيما ظن ، وذلك ان الجمود ، هو أن لا تبكي العين مع آن الحال حال بكاء ، فلا يكون كناية عن المسرة وإنما كناية عن البخل .
2- في الكشف عن معنى البلاغــــة :
أ – البلاغة في اللغة والاصطلاح :
البلاغة في اللغة: الوصول والانتهاء، يقال بلغت الغاية: أي انتهيت إليها وبلغتها غيري .ويقال : بلغ فلان مراده إذا وصل إليه . " وبلغ الركب المدينة " إذا انتهى إليها .
والبلاغة في الاصطلاح حسب علماء اللغة والبيان هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. وفصاحته تكون بخلوه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات والتعقيد. وهذا قيد يخرج به كل كلام غير فصيح، فلا يكون بليغا وإن كان مطابقا لمقتضى الحال .
والفصاحة تكون في الألفاظ والبلاغة في الألفاظ والمعاني ( أي في كلام مركب ) وعليه فكل بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا .
أما مطابقته لمقتضى الحال، فتعني أن الكلام البليغ يجب أن يكون ملائما لأحوال المخاطب، فيناسب عقله وطبقته ودرجة ثقافته، فخطاب الذكي يقضي بالإيجاز والتلميح، وخطاب الغبي يقضي بالإطناب والتوضيح .
والبلاغة عند الرماني [ أحد علماء البلاغة وعلم الكلام] : " هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ( النكت 75) بمعنى أن البلاغة هي وصول معاني المتكلم إلى المستمع بكلام فصيح حسن الوقع في النفوس .
وهو تعريف دقيق يكشف من جهة عن الأثر النفسي للبلاغة وقدرتها على إيصال المعنى إلى قلب السامع وتمكينه في الذهن ويكشف من جهة ثانية عن الوظيفة الفنية والبيانية للبلاغة وقدرتها على إبراز المعنى في رداء جميل، وعرضه في صورة بديعية .
3- مفهوم الفصاحة عند عبد القاهر الجرجاني :
أنكر عبد القاهر الجرجاني أن تكون الفصاحة من عوارض اللفظ المفرد، لإيمانه بأن فصاحة اللفظ عائدة للمعنى، وأن هذه الفصاحة لا تظهر إلا بضم الكلام بعضه إلى بعض في جملة من القول، أو في نص من النصوص وما يدل على ذلك أننا نرى اللفظة فصيحة في موضع وغير فصيحة في مواضع كثيرة، ومن ثم فإن المزية التي من أجلها استحق " اللفظ الوصف بأنه فصيح في المعنى دون اللفظ، لأنه لو كانت بها المزية التي من أجلها يستحق الوصف بأنه فصيح تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة أنها فصيحة أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها في كل حـــــــال " ( دلائل الإعجاز ص .400-401 ) .
وإذا أردنا أن نعرف صدق ذلك فلننظر إلى لفظ الأخدع) في بيت البحتـــــــــري
وإني وإن بلغتني شرف الغنى *** واعتقت من رق المطامع أخدعي .
وفي بيت أبي تمام :
يا دهر قوم من أخدعيك فقـــد *** أضججت هذا الآنام من خرقــــــك
فإننا نجد لها ما لا يخفى من الحسن في البيت الأول ما يجعلها جديرة بالإعجاب والثناء ونجد لها في البيت الثاني من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير ما يجعلها ثقيلة مستكرهة لا تستحق وصفها بالفصاحة، فلو كان لفظ ( الأخدع) قد حسن في بيت البحتري من حيث هو لفظ ونطق لسان لما اختلف به الحال من سياق إلى سياق ومن نظم إلى نظم . ولكانت المزية ملازمة له حيث كان، فالنظم إذن هو الذي يحدد قيمة الكلمة المفردة ، وهو الذي يحكم عليها بالصلاح أو الفساد. والنظم عند عبد القاهر الجرجاني هو : " أن تضم كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها " ( دلائل الإعجاز ص 81) .
إذن اللفظة المفردة – حسب الجرجاني – بمعزل عن المزية والفضيلة، بل تثبت لها القيمة والفضيلة في حسن ملاءمة معناها معنى اللفظة التي تليها، وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها. ويضرب عبد القاهر الجرجاني مثالا من الذكر الحكيم يبين فيه أن الفضل إنما يعود إلى الاتصال والاتساق بين الألفاظ في قوله تعالى :" وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي ، وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " ( هود 44) .
فهذه الآية لها من الحسن والشرف ما يبهر القلب والسمع، إلا أن هذا الحسن والشرف لم يعرض لها من حيث أنها تألفت من ألفاظ هي : ( أرض - ابلعي – الماء – سماء – اقلعي – استوت – الجودي – القوم- الظالمين ) ، فهذه ألفاظ مألوفة مستعملة عند العرب ، ليس فيها جمال أو حسن، ومزيتها الظاهرة وفضيلتها القاهرة إنما ترجع إلى ارتباط هذه الألفاظ بعضها ببعض فارتبطت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن انتهى تركيب الآية ، يقول عبد القاهر الجرجاني محللا مواطن الإعجاز في هذه الآية فيقول : " إن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت، ثم في أن كان النداء ( بيا) دون (أي) نحو ( يا أيتها الأرض) ثم إضافة ( الماء) إلى ( الكاف) دون أن يقال ( ابلعي الماء) ثم أن أتبع نداء الأرض، وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء، وأمرها كذلك بما يخصها. ثم أن قيل ( وغيض الماء) ، فجاء الفصل على صيغة (فعل) الدال على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادرة ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى : ( وقضي الأمر) ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ( استوت على الجودي) ثم إضمـــــار ( السفينة) ، قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة ، والدلالة على عظم الشأن ، ثم مقابلة ( قيل) في الخاتمة ( بقيل) في الفاتحة) ( دلائل الإعجاز ، ص .45-46) .
نلاحظ إذن أن عبد القاهر يربط مفهوم الفصاحة بالنظم والتأليف والترتيب، ولا شيء من الاعتبار للفظ وحده، قبل أن يدخل في النظم الذي ينتظم به المعنى. والحقيقة أن الألفاظ المفردة لا يتصور أن يقع بينها تفاضل من حيث هي ألفاظ مفردة ومجردة دون أن تدخل في تركيب أو تأليف، ولكن ذلك لا ينفي أن للألفاظ المختارة فضل في معنى النظم وجمال التأليف. فالرأي المنصف أن النظم والتركيب يحسن بالألفاظ العذبة السلسلة، ويقبح بالألفاظ القبيحة الخشنة، ثم إن الألفاظ الحسنة تزداد جمالا وحسنا بحسن موافقتها لما جاورها من الألفاظ فيكشف التجاور عما فيها من حسن وجمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) المستشزرات : مفتولة العقاص ضفائر الشعر:
([2])معنى وحشية الكلمة : كونها غير مأنوسة الاستعمال
([3]))- الجرشي : كريم النفس:
نزل القرآن الكريم والعرب في أوج عظمتهم البيانية، وقمة بلاغتهم وفصاحتهم اللغوية، فجاء القرآن الكريم عربيا فصيحا، يخاطب فطرة العرب بلسانهم وباللغة التي يألفونها وبالكلمات التي يجيدون حبكها ونظمها، ليحصل لهم التمكن من المعارضة ثم يعجزون عنها فتقام عليهم الحجة، وابتداء من القرن الثاني الهجري، قامت حركة علمية نشيطة تبحث عن الوجوه التي صار بها القرآن معجزا، فألفت الكتب العديدة، وقامت الدراسات المتنوعة، وكلها تهدف إلى الوقوف على كنه الإعجاز القرآني، فمنهم من رد إعجازه لإخباره عن تاريخ الأنبياء والأمم الماضية والأمور المستقبلة، ومنهم من رد إعجازه لتأثيره في النفوس وصنيعه في القلوب، ومنهم من قال بأنه معجز، من جهة صرف الله العرب عن معارضته. إلا أن معظم العلماء اتفقوا على أن إعجازه يمكن في فصاحته وبلاغته التي لم تبلغها بلاغة البلغاء وفصاحة الفصحاء ، والسؤال الذي كان يطرح نفسه في هذا المقام هو: ما وجه بلاغة وفصاحة هذا الكلام الذي صح به التحدي ووقع به الإعجاز؟ أفي كلماته المفردة من حيث سلامتها في نفسها وذاتها وبعدها عن الغرابة والوحشية؟ أم في بلاغة معانيه وسموها؟ أم في نظم هذه الكلمات وتأليفها حين يضم بعضها إلى بعض، فيقع بينها تجانس وتناسب والتحام
1- في الكشف عن معنى الفصاحة :
أ- الفصاحة في اللغة والاصطلاح:
الفصاحة في اللغة : الظهور والبيان ، نقول : أفصح الصبح إذا ظهر، وأفصح الصبي في منطقه إذا بان وظهر كلامه .
والفصاحة في الاصطلاح حسب علماء اللغة والبيان توصف بها الكلمة المفردة كما يوصف بها الكلام .
ب – فصاحــة الكلمــة : ففصاحة الكلمة عبارة عن سلامتها من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي بمعنى أن فصاحة الكلمة هي أن تكون واضحة مألوفة متلائمة الحروف مطابقة للاستعمال اللغـــــوي .
1- فتنافر الحروف : وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعلى السمع كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته ، فقال تركتها ترعى الهعخع (اسم شجر أو بنات ترعاه الإبل).
وكقول امرئ القيس :
عدائره مستشزرات إلى العلا *** تضل العقاص في مثنى ومرسل ([1])
وسبب ثقل : مستشزر : توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة .
2- والغرابة: أن تكون الكلمة وحشية ([2]) لا يظهر معناها ، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقر في كتب اللغة، كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس، فقال : مالكم تكأكأتم علي تكأكأكم على ذي جنة .
كلمة تكأكأ: ( بمعنى اجتمع) قيل أن الكلمة غير فصيحة لغرابتها .
ومثله كلمة الجرشي في قول المتنبي :
مبارك الاسم أغر اللقب *** كريم الجرشى شريف النسب ([3]).
3- مخالفة القياس : أي كون الكلمة غير جارية على القانون الصرفـــــــــي " كجمع بوق" على " بوقات" في قول المتنبي .
فإن يك بعض الناس سيفا لدولة *** ففي الناس بوقات لها وطبول
إذ القياس في جمعه للقلة ( أبواق) وقوله :" بوقات" مخالف للقياس
وكلفظ " الأجلل" في قول الشاعر :
الحمد العلي " الأجلل *** الواهب الفضل الكريم المزجل
فإن القياس : الأجل بالإدغام، والذي ألجأ إلى فك الإدغام ضرورة الشعر. ولكن الفك في موضع الإدغام لا يعتبر فصاحة لمخالفة القياس .
ج- فصاحـة الكلام : أما فصاحة الكلام : فهي سلامته من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات مجتمعه والتعقيد. مع فصاحة كلماته. لأن فصاحة الكلمة شرط في فصاحة الكلام فلو خلا من الثلاثة ، واشتمل على كلمة غير فصيحة لم يكن فصيحا. وذلك كقول أبي الطيب المتنبي الذي ذكرناه سابقا .
مبارك الاسم أغر اللقب *** كريم الجرشى شريف النسب
1- ضعف التأليف : كون الكلام غير جار على القانون النحوي المشهور ( أي لو كان غير جار على القانون النحوي المتفق عليه فهذا لا يصلح أصلا، فلا يقال : إنه كلام غير فصيح، بل يقال إنه كلام فاسد لا تجيزه اللغة بأي حال من الأحوال)
مثال ذلك الإضمار قبل الذكر لفظا ورتبة ، كما في قول الشاعر
لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا *** وكاد لو ساعد المقدور ينتصر
وقول الشاعر :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر *** وحسن فعل كما يجزى سنمار
فالهاء في :(... بنوه أبا الغيلان) و ( طالبوه مصعبا) متصلة بالفاعل، وهي تعود على المفعول به، فهي عائدة على متأخر لفظا ورتبة، وهذا مخالف للقانون المشهور، إذ إن المشهور أن الضمير لا يعود على متأخر لفظا ورتبة .
2- تنافر الكلمات : وصف في الكلام تكون بسببه الكلمات متناهية في الثقل على اللسان وعلى السمع، ويعسر النطق بها متتالية، كما في البيت الذي أنشده الجاحظ :
وقبر حرب بمكان قفر *** وليس قرب قبر حرب قبر
فلو نظرنا إلى الكلمات التالية: " قبر" قرب " حرب" ليس فيها تنافر بالنسبة للكلمة الواحدة، لكن ضم بعضها إلى بعض يوجب التنافر، فيقال الكلام غير فصيح لتنافر كلماته .
ومنه ما دون ذلك في التنافر كما في قول أبي تمام :
كريم متى أمدحه والورى *** معي وإذا لمته لمته وحدي
فهذا البيت قوي جدا في الثناء على الممدوح " أي أني إذا مدحته فالورى كلهم يمدحونه، وإذا لمته لم يلمه أحد" لكنه من جهة البلاغة غير فصيح لأن كلماته متنافرة، لأن في قوله أمدحه أمدحه ثقلا لما بين الحاء والهاء من التنافر .
3- التعقيــــــد : وهو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد وهو نوعان: تعقيد من جهة اللفظ : ويكون بسبب تقديم الكلمات أو تأخيرها عن مواطنها الأصلية أو بالفصل بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض فيصعب فهم المعنى كقول الشاعر :
حلفت له بالله يوم التفرق *** وبالوجد من قلبي به المتعلق .
فالتعقيد في البيت راجع إلى فصل النعت ( المتعلق) عن منعوته ( قلبي) بالجار والمجرور .
وقول أبي الطيب المتنبي :
أنى يكون أبا البرية آدم *** وأبوك والثقلان أنت محمد
والوضع الصحيح أن يقول : كيف يكون آدم أب البرية، وأبوك محمد، وأنت الثقلان؟ يعني أنه قد جمع ما في الخليفة من الفضل والكمال، فقد فصل بين المبتدأ والخبر وهما " أبوك محمد" وقدم الخبر على المبتدأ تقديما قد يدعو إلى اللبس في قولـــــه " والثقلان أنت". أما التعقيد من جهة المعنى فهو أن يعمد المتكلم إلى التعبير عن معنى فيستعمل مجازات وكنايات لا يفهم المراد بها، أي أن الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد لا يكون ظاهرا، فلا يفهمه السامع، نحو قولك :" نشر الملك ألسنته في المدينة". لو كنى بألسنته وأراد خطباءه لكان فصيحا غير معقد، لكنه يريد جواسيسه، وهذا غير صحيح بعيد المعنى إذ أن الجواسيس يسمون عيونا. فهذا الكلام غير فصيح لأن فيه تعقيدا معنويا والصواب أن يقـول : " نشر عيونه" .
ومنه أيضا : قول عباس بن الأحنف .
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
دل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن وأصاب لأن من شان البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله ( لتجمدا) ، لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء وغلط فيما ظن ، وذلك ان الجمود ، هو أن لا تبكي العين مع آن الحال حال بكاء ، فلا يكون كناية عن المسرة وإنما كناية عن البخل .
2- في الكشف عن معنى البلاغــــة :
أ – البلاغة في اللغة والاصطلاح :
البلاغة في اللغة: الوصول والانتهاء، يقال بلغت الغاية: أي انتهيت إليها وبلغتها غيري .ويقال : بلغ فلان مراده إذا وصل إليه . " وبلغ الركب المدينة " إذا انتهى إليها .
والبلاغة في الاصطلاح حسب علماء اللغة والبيان هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. وفصاحته تكون بخلوه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات والتعقيد. وهذا قيد يخرج به كل كلام غير فصيح، فلا يكون بليغا وإن كان مطابقا لمقتضى الحال .
والفصاحة تكون في الألفاظ والبلاغة في الألفاظ والمعاني ( أي في كلام مركب ) وعليه فكل بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا .
أما مطابقته لمقتضى الحال، فتعني أن الكلام البليغ يجب أن يكون ملائما لأحوال المخاطب، فيناسب عقله وطبقته ودرجة ثقافته، فخطاب الذكي يقضي بالإيجاز والتلميح، وخطاب الغبي يقضي بالإطناب والتوضيح .
والبلاغة عند الرماني [ أحد علماء البلاغة وعلم الكلام] : " هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ( النكت 75) بمعنى أن البلاغة هي وصول معاني المتكلم إلى المستمع بكلام فصيح حسن الوقع في النفوس .
وهو تعريف دقيق يكشف من جهة عن الأثر النفسي للبلاغة وقدرتها على إيصال المعنى إلى قلب السامع وتمكينه في الذهن ويكشف من جهة ثانية عن الوظيفة الفنية والبيانية للبلاغة وقدرتها على إبراز المعنى في رداء جميل، وعرضه في صورة بديعية .
3- مفهوم الفصاحة عند عبد القاهر الجرجاني :
أنكر عبد القاهر الجرجاني أن تكون الفصاحة من عوارض اللفظ المفرد، لإيمانه بأن فصاحة اللفظ عائدة للمعنى، وأن هذه الفصاحة لا تظهر إلا بضم الكلام بعضه إلى بعض في جملة من القول، أو في نص من النصوص وما يدل على ذلك أننا نرى اللفظة فصيحة في موضع وغير فصيحة في مواضع كثيرة، ومن ثم فإن المزية التي من أجلها استحق " اللفظ الوصف بأنه فصيح في المعنى دون اللفظ، لأنه لو كانت بها المزية التي من أجلها يستحق الوصف بأنه فصيح تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة أنها فصيحة أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها في كل حـــــــال " ( دلائل الإعجاز ص .400-401 ) .
وإذا أردنا أن نعرف صدق ذلك فلننظر إلى لفظ الأخدع) في بيت البحتـــــــــري
وإني وإن بلغتني شرف الغنى *** واعتقت من رق المطامع أخدعي .
وفي بيت أبي تمام :
يا دهر قوم من أخدعيك فقـــد *** أضججت هذا الآنام من خرقــــــك
فإننا نجد لها ما لا يخفى من الحسن في البيت الأول ما يجعلها جديرة بالإعجاب والثناء ونجد لها في البيت الثاني من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير ما يجعلها ثقيلة مستكرهة لا تستحق وصفها بالفصاحة، فلو كان لفظ ( الأخدع) قد حسن في بيت البحتري من حيث هو لفظ ونطق لسان لما اختلف به الحال من سياق إلى سياق ومن نظم إلى نظم . ولكانت المزية ملازمة له حيث كان، فالنظم إذن هو الذي يحدد قيمة الكلمة المفردة ، وهو الذي يحكم عليها بالصلاح أو الفساد. والنظم عند عبد القاهر الجرجاني هو : " أن تضم كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها " ( دلائل الإعجاز ص 81) .
إذن اللفظة المفردة – حسب الجرجاني – بمعزل عن المزية والفضيلة، بل تثبت لها القيمة والفضيلة في حسن ملاءمة معناها معنى اللفظة التي تليها، وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها. ويضرب عبد القاهر الجرجاني مثالا من الذكر الحكيم يبين فيه أن الفضل إنما يعود إلى الاتصال والاتساق بين الألفاظ في قوله تعالى :" وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي ، وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " ( هود 44) .
فهذه الآية لها من الحسن والشرف ما يبهر القلب والسمع، إلا أن هذا الحسن والشرف لم يعرض لها من حيث أنها تألفت من ألفاظ هي : ( أرض - ابلعي – الماء – سماء – اقلعي – استوت – الجودي – القوم- الظالمين ) ، فهذه ألفاظ مألوفة مستعملة عند العرب ، ليس فيها جمال أو حسن، ومزيتها الظاهرة وفضيلتها القاهرة إنما ترجع إلى ارتباط هذه الألفاظ بعضها ببعض فارتبطت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن انتهى تركيب الآية ، يقول عبد القاهر الجرجاني محللا مواطن الإعجاز في هذه الآية فيقول : " إن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت، ثم في أن كان النداء ( بيا) دون (أي) نحو ( يا أيتها الأرض) ثم إضافة ( الماء) إلى ( الكاف) دون أن يقال ( ابلعي الماء) ثم أن أتبع نداء الأرض، وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء، وأمرها كذلك بما يخصها. ثم أن قيل ( وغيض الماء) ، فجاء الفصل على صيغة (فعل) الدال على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادرة ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى : ( وقضي الأمر) ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ( استوت على الجودي) ثم إضمـــــار ( السفينة) ، قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة ، والدلالة على عظم الشأن ، ثم مقابلة ( قيل) في الخاتمة ( بقيل) في الفاتحة) ( دلائل الإعجاز ، ص .45-46) .
نلاحظ إذن أن عبد القاهر يربط مفهوم الفصاحة بالنظم والتأليف والترتيب، ولا شيء من الاعتبار للفظ وحده، قبل أن يدخل في النظم الذي ينتظم به المعنى. والحقيقة أن الألفاظ المفردة لا يتصور أن يقع بينها تفاضل من حيث هي ألفاظ مفردة ومجردة دون أن تدخل في تركيب أو تأليف، ولكن ذلك لا ينفي أن للألفاظ المختارة فضل في معنى النظم وجمال التأليف. فالرأي المنصف أن النظم والتركيب يحسن بالألفاظ العذبة السلسلة، ويقبح بالألفاظ القبيحة الخشنة، ثم إن الألفاظ الحسنة تزداد جمالا وحسنا بحسن موافقتها لما جاورها من الألفاظ فيكشف التجاور عما فيها من حسن وجمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) المستشزرات : مفتولة العقاص ضفائر الشعر:
([2])معنى وحشية الكلمة : كونها غير مأنوسة الاستعمال
([3]))- الجرشي : كريم النفس:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق