الدكتورة: حفان مليكة *
يمكن الاطلاع على هذا البحث بزيارة المواقع التي سبق نشره فيها على الروابط الآتية:
تقديم:
إذا كانت قضية إعجاز القرآن قد حظيت من علماء المسلمين بجهود مضنية وأطالت بينهم الجدل والخصومة، وشعبت الآراء والمذاهب، فإن هذا الجدل والخصام، كان يرجع في أهم جوانبه إلى ثنائية اللفظ والمعنى. فقد ربط هؤلاء العلماء ما بين قضية الإعجاز، وهذه الثنائية لكشف أسرار القرآن الكريم، وإبراز سر الإعجاز اللغوي فيه. فاهتم بعضهم بالصياغة اللفظية، وما يتصل بها من فنون البديع وأسرار الفصاحة. ووجه فريق آخر عنايته للمعاني وأحوال التراكيب لإثبات هذا الإعجاز. ويمكن القول إن عناية الرماني بأمر البلاغة، واتخاذها مستندا في تفسير الوجه المعجز من القرآن الكريم، يربطان بحث الرماني بالفكر الاعتزالي بسبب متين، تجلى ذلك في فنون البلاغة العشرة التي اتخذها دليلا على الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وهي أقسام تدخل كلها في مجال الصياغة اللفظية والانسجام الصوتي.
لقد أدرك الرماني بفكره النير وثقافته العميقة المتنوعة، أن إعجاز القرآن كان باللفظ والمعنى، وأن البلاغة القرآنية، وهي أهم وجه للإعجاز، لا يتحقق وجودها بمجرد إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عي. ولا هي مجرد تحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يتحقق اللفظ على المعنى، وهو غث مستكره ونافر متكلف. والمفهوم الذي يرتضيه أن البلاغة "إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ"(1)، وهو تعريف دقيق، يكشف من جهة، الأثر النفسي للبلاغة وقدرتها على إيصال المعنى إلى قلب السامع، وتمكينه في الذهن، ويكشف من جهة ثانية عن الوظيفة الفنية والبيانية للبلاغة، وقدرتها على إبراز المعنى في رداء جميل، وعرضه في صورة بديعة (في أحسن صورة من اللفظ). إن هذا التعريف للبلاغة، يذكرنا من غير شك، بتعريف الجاحظ للكلام البليغ حيث يقول: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة، حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه. فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق، من معناه إلى قلبك"(2). الذي نفهمه من تعريف الجاحظ، أن من أراد البلاغة، فعليه أن يعبر عن المعاني بألفاظ تماثلها في الحسن، وتساويها في القدر والجودة. وقد أشار في اعتراضه على مذهب أبي عمرو الشيباني إلى مقومات الكلام البليغ، فأشار إلى أن الكلام، يحسن بسلامته وسهولته وتخير لفظه وأصالة معناه فقال: "والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك"(3). وهي كلها مقومات، تؤكد مذهب الجاحظ، في إيثار اللفظ والصياغة وإعطاء الاعتبار لهما.
وقد اقتفى الرماني أثر الجاحظ في عنايته بهذه الثنائية، وفي اهتمامه بجمال الصياغة اللفظية، والانسجام الصوتي، وفنون البديع، لكن ذلك لا يعني اطراح المعاني وإهمالها، أو الفصل بين اللفظ ومعناه، فهما مترابطان أشد الترابط، وممتزجان في كل تعبير، أقوى ما يكون الامتزاج، فالرماني كان مدركا وعلى نحو جيد لمفهوم الجاحظ للبلاغة، ولمقولته المشهورة، المعاني مطروحة في الطريق، وإن كان ينتصر للفظ وللصياغة، إلا أنه لا يغض من شأن المعاني، أو يساوي بين ما هو جيد منها، وما هو سوقي مبتذل. إن ما يقصده الجاحظ، أن الشعر والأدب عموما، إنما تنبع قيمته من صياغته الفنية القادرة على تقديم مضمونها في شكل مؤثر جميل، وهذا ما سعى الرماني إلى تحقيقه حين ربط جانبا من قضية الإعجاز، ببلاغة النص القرآني، وطريقته الفذة في تقديم المعنى، وقدرته على التأثير في متلقيه. فلم يكن هم الرماني من التماس إعجاز القرآن من تلك الأقسام البلاغية، الوقوف على ما اشتملت عليه البلاغة القرآنية من محسنات بلاغية وبديعية، منفصلة عن سياقها، وعرضها كزينة لفظية، وكحلية حسية مطلوبة. وإنما كانت عنايته موجهة لاستخراج هذه الفنون، وبيان سر أصالتها في الأسلوب القرآني، والوقوف على أسباب تأثيرها في النفس تأثيرا لا يتهيأ لبشر، وهو ما عبر عنه الرماني عند تعريفه للبلاغة بأنها إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من السمع، فقضية الإعجاز، غير منوطة بألوان البديع وفنون البلاغة، وإنما هي متأتية من طبيعة النص القرآني، بما تحقق له من حسن البيان، وجودة اللفظ وتلاؤمه، واستواء تقاسيمه مع المعاني في النفس.
وحديث الرماني عن ثنائية اللفظ والمعنى متردد في أقسام البلاغة العشرة، فهو من أنصار الصياغة اللفظية حسب ائتلاف المعاني مع الألفاظ، فلكل واحد منهما وظيفة يؤديها، لكن ليس منفردا، بل باعتبار ارتباطه بالآخر، فلا وجود للفظ إلا بالمعنى، ولا وجود للمعنى إلا باللفظ. وقد التزم الرماني بهذا الرأي، ودلل عليه كلما سنحت له فرصة، أثناء شرحه وتحليله لأبواب البلاغة العشرة الدالة على إعجاز القرآن. والرماني إذ يعتقد أن الإعجاز يكمن في خصائص ونكت امتاز بها أسلوب القرآن الكريم عن غيره من كلام البشر، جعل هذا الأسلوب مناط بحث وتحليل، ليقف على جماله ودقة استخدامه للفنون البلاغية ومقارنتها بأساليب بلاغية ماثلة في كلام العرب، الذين لم يكن أحد أفصح ولا أتم بلاغة منهم، ليتسنى له بيان تفوق البلاغة القرآنية، وتميزها عن بلاغة البشر. ولا يخفى على الدارس في مجال الدراسات اللغوية والبلاغية، أن هذه الأقسام البلاغية، كانت معروفة بأسمائها بين النقاد والبلاغيين وغيرهم من أهل اللغة والأدب، والجديد الذي ينبغي تسجيله والتنويه به، إنما يتراءى في أسلوب معالجته لتلك الأقسام البلاغية "فهو مستقل في تفكيره ورأيه ينزع إلى التنظير، ومحاولة ضبط الصور البلاغية التي لها ضبطا منهجيا إلى حد كبير، وذلك بتعريفها، ثم بيان ما يراه من أقسام لها، وتوضيح ذلك بالشواهد البلاغية"(4).
-1- الإيجــاز:
نبدأ بباب الإيجاز، وهو أول وجه بلاغي تحدث عنه الرماني من وجوه الإعجاز البلاغي فعرفه قائلا "الإيجاز تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى"(5)، وهو تعريف يلتزم فيه الرماني بآرائه في ثنائية اللفظ والمعنى، وفي تصوره لمفهوم البلاغة، فلا يكون الكلام بليغا إلا بتحققهما معا، وتلازمهما تلازما تاما. وكذلك لا يكون في الكلام إيجاز حتى تأتي الألفاظ على قدر المعاني لا تزيد عنها ولا تنقص، فإذا كان الكلام يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة، كما يمكن أن يعبر عنه بألفاظ قليلة، فإن الإيجاز هو البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ(6). وليس تقليل الألفاظ على المعاني إيجازا بلاغيا في كل حال، وإنما الشرط أن يتم ذلك من غير إخلال بالمعنى، وإلا كان الكلام تقصيرا. فالإيجاز بلاغة، لأنه لا يظهر فيه إخلال بالمعنى المدلول، بخلاف التقصير فإنه لابد فيه من الإخلال(7). ولذلك كان الإيجاز أرفع مكانة على غيره من الكلام. ولاشك أن الرماني قد تأثر بسلفه - الجاحظ- في تعريفه لهذا الباب وتأكيده على البعد النفسي والبلاغي للإيجاز، حين عرفه قائلا "وأحسن الكلام، ما كان قليله، يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه"(8)، ثم فال في الموضع نفسه "فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، صحيح الطبع عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، ومنزها عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة"(9). من خلال هذين التعريفين، يتضح أن الإيجاز عند الجاحظ هو إصابة معنى، وإدراك غرض بألفاظ عربية سهلة عذبة، خالية من التكلف والتطويل والاختلال، وقد لمسنا هذا المعنى أيضا عند الرماني من خلال تعريفاته لباب الإيجاز، فهوعنده بمثابة "تقليل الكلام، من غير إخلال بالمعنى"(10). وهو "تهذيب الكلام بما يحسن به البيان" وهو أيضا "إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير" كما أنه "تصفية الألفاظ من الكدر وتخليصها من الدرن"(11).
إن هذه التعريفات كلها، تعني أن الإيجاز باعتباره أسلوبا بيانيا، يرجع حسنه وبهاؤه إلى المهارة في التصرف في الألفاظ والمعاني، والقدرة على المقابلة بينهما. والإيجاز عند الرماني على وجهين: إيجاز حذف، وإيجاز قصر، أما إيجاز الحذف فهو "إسقاط كلمة، للاجتزاء عندها بدلالة غيرها من الحال، أو فحوى الكلام"(12). وله أمثلة كثيرة من القرآن الكريم يذكر منها، قوله تعالى ﴿وسئل القرية﴾(13)، كأنه قيل (واسأل أهل القرية)، ومنه حذف أجوبة، كقوله تعالى ﴿وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها﴾(14) كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم، الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير(15)، فالحذف في الآتين أبلغ من الذكر، "لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان"(16).
من الواضح أن الرماني من خلال هذا التعليق الدقيق، كان مدركا لهذا التأثير العجيب الذي تحدثه بلاغة القرآن الكريم، في نفوس وقلوب سامعيه، فتخشع وتنقاد له صاغرة طائعة مستسلمة، كما قال عز من قائل ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾(17).
وأما الإيجاز بالقصر "فهو بنية الكلام، على تقليل اللفظ، وتكثير المعنى، من غير حذف"(18)، ومنه قوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾(19)، ومنه قوله تعالى ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس﴾(20)، ومنه قوله تعالى ﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾(21) فقد نظمت هذه الآيات بألفاظ قليلة، لكنها مستوعبة لمعان كثيرة، تدل على عظمة التعبير القرآني. وليبرهن على ذلك، يعقد مقارنة بين الإيجاز في القرآن، والإيجاز في كلام العرب، وهم أفصح الناس وأبلغهم، لإبراز التفاوت بينهما، فيمثل للقرآن الكريم بقوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾(22)، ويمثل لقول العرب بالحكمة المشهورة (القتل أنفى للقتل)، حيث انتهى إلى أن إيجاز الآية، أبلغ من إيجاز الحكمة العربية من وجوه أربعة، "أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة"(23).
أما الكثرة في الفائدة، ففيه كل ما فيه قولهم (القتل أنفى للقتل) وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكر القصاص، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرحمة لحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير(القتل أنفى للقتل)، قوله r ﴿القصاص حياة﴾ فالأول فيه أربعة عشر حرفا، والثاني عشرة أحرف.
وأما بعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن في قولهم (القتل أنفى للقتل) تكريرا، غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك، فهو مقصر في باب البلاغة عن أعلى طبقة.
وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة، فهو مدرك بالحس، وموجود في اللفظ. فإن الخروج من الفاء إلى اللام، في قول تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾ أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، في قول العرب ( القتل أنفى للقتل) لبعد الهمزة من اللام.
فباجتماع هذه الأمور جميعا، صار الإيجاز في الآية الكريمة أبلغ وأحسن(24).وفي ثنايا حديث الرماني عن الإيجاز، تعرض للإطناب والتطويل. فالإطناب هو "تفصيل المعنى، وما يتعلق به في المواضع التي يحسن فيها ذكر التفصيل"(25)، أما التطويل فهو: "التعبير عن المعنى بلفظ زائد، يفهم ذلك المعنى بدونه، فإذا حذفت تلك الزيادة، بقي المعنى المعبر عنه على حاله لم يتغير منه شيء."(26) وهذا بخلاف الإطناب، فإنه إذا حذفت منه تلك الزيادة المؤكدة للمعنى، تغير ذلك المعنى وذهبت الفائدة. ولذلك عد الرماني الإطناب بلاغة، والتطويل عيا "لأنه تكلف فيه الكثير مما يكفي منه القليل، فكان كالسالك طريقا بعيدا جهلا منه بالطريق القريب. وأما الإطناب فليس كذلك، لأنه كمن سلك طريقا بعيدا لما فيه من النزهة الكثيرة والفوائد العظيمة"(27).
وهكذا نلاحظ أن الرماني في بحثه لباب الإيجاز، قد حرص على بيان تفوق البلاغة القرآنية على غيرها من الكلام الجاري على ألسنة العرب، فهو كلام خال من كل تقصير وتطويل، مشحون بالإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، من غير إخلال باللفظ أو بالمعنى، وقد كانت للرماني لمحات جيدة في هذا الباب، استفاد منها كل من جاء بعده من البلاغيين، وخاصة تلك المقارنة اللماحة التي أجراها بين الآية الكريمة والحكمة العربية، فقد نقل هذه المقارنة كل من أبي هلال العسكري (ت.395هـ) وأبي سنان الخفاجي (ت.466هـ).
-2- الـتشبــيه:
بعد أن انتهي الرماني من الحديث عن باب الإيجاز، انتقل للحديث عن وجه آخر من وجوه البلاغة القرآنية، وهو باب التشبيه، ليثبت أن تشبيهات القرآن الكريم، تختلف عن تشبيهات العرب، بكثرة المعاني المستنبطة منها، وبسلاستها في النطق والسمع، ويعرف الرماني التشبيه بقوله "التشبيه هو العقد على أحد الشيئين، يسد مسد الآخر في حس أو عقل، ولا يخلو التشبيه من أن يكون في القول أو في الأنفس، كتشبيه ماء بماء، أو ذهب بذهب، أو في العقل، كتشبيه قوة زيد، بقوة عمرو، فالقوة لا تشاهد ولكنها تعلم"(28)، وهو تعريف جامع مانع كما يقول أهل المنطق، إذ أبان فيه وجوه الالتقاء بين المشبه والمشبه به في الحس أو العقل. واضح من هذا التعريف أن العلاقة التي تربط بين المشبه والمشبه بهن علاقة مقارنة أساسا، وليست علاقة اتحاد أو تفاعل، بحيث يصبح "هذا الطرف ذاك الآخر، ولو على سبيل الإيهام، أو تتفاعل دلالات الأطراف مكونة دلالة جديدة، هي محصلة لهذا التفاعل كما يحدث في الاستعارة. إن التشبيه هو محض مقارنة بين طرفين متمايزين لاشتراك بينهما في الصفة نفسها، أو في مقتضى وحكم لها"(29).
والتشبيه عند الرماني، من الأبواب التي يتفاضل فيها الشعراء، وتظهر فيها بلاغة البلغاء، وهو على طبقات. فأعلاه طبقة التشبيه الذي ورد في القرآن الكريم، وما كان دونه فهو الذي ورد في كلام الناس. ويعطينا الرماني قاعدة عامة، تعرف بها بلاغة التشبيه في يسر وسهولة. فالتشبيه البليغ، يتحقق عنده في "إخراج الأغمض، إلى الأظهر بأداة التشبيه، مع حسن التأليف"(30). واشتراط الرماني في التشبيه البليغ حسن التأليف، وانسجام العبارة واتساقها مع بقية أجزائها، رأي في غاية الوجاهة، لأن التشبيه لا تظهر قيمته الحقيقية، من حسن أو قبح، إذا كان مبتورا عن بقية العناصر الأخرى المؤلفة للعبارة. فللفظ دور في صياغة العبارة، وللمعاني مكانة في نظم العبارة. ولا يظهر حسن تأليف العبارة وبهائها، إلا إذا كان المعنى مكشوفا، واللفظ مناسبا، وكان كل لفظ من ألفاظ العبارة يخدم الآخر، ويضفي عليه مزيدا من الحسن "ورب لفظ واحد متنافر، لا انسجام بينه وبين غيره من الألفاظ، يطيح بالعبارة كلها، ويلقي بها من حالق، وإن كانت بقية عباراتها تزخر بالتشبيهات"(31).
لقد أحس الرماني بقضية ائتلاف اللفظ والمعنى، وجعلها سببا في حسن التأليف وبلاغة التشبيه، وأدرك أن هذا التآلف ناتج عن "حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الدلالة"(32). فالتشبيه محاولة بلاغية جادة، لصقل الشكل وتطوير اللفظ، ومهمته تقريب المعنى إلى الذهن بتجسيده حيا، ومن ثم فهو ينقل اللفظ من صورة إلى صورة أخرى. فإن أراد صورة متناهية في الحسن والجمال "شبه الشيء بما هو أرجح منه حسنا، وإن أراد صورة متداعية في القبح والتفاهة شبه الشيء بما هو أردأ منه صفة"(33). وعلى هذا الأساس، فإن الرماني يرى أن جانبا كبيرا من بلاغة التشبيه، يرتد إلى إخراج الأغمض إلى الأظهر. ومعنى إخراج الأغمض إلى الأظهر، قدرة التشبيه على تصوير المعنى وتقديمه تقديما محسوسا، وذلك عن طريق ربطه المعنوي المجرد بالحسي العيني، أو ربط الصور الحسية بأخرى أشد منها تمكنا في الصفات الحسية، وهذا ما يجعله قريبا من مجال الإدراك الإنساني، ويجعله أكثر قدرة على التأثير والتأثر(34). والتشبيه البليغ عند الرماني يقع على وجوه أربعة هي:
1- الوجه الأول: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، كقوله تعالى ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا﴾(35) فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعدم الفاقة(36). ولا ينسى الرماني الإشارة إلى ملاحظة هامة، وهي دقة اختيار القرآن الكريم لألفاظه في التعبير مع المعنى المراد بصورة أقوى وأبلغ فيقول "ولو قال يحسبه الرائي ماء، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدر، لكان بليغا وأبلغ منه لفظ القرآن، لأن الظمآن أشد حرصا عليه وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في النار"(37).
2- الوجه الثاني: إخراج ما لم تجر به عادة، إلى ما قد جرت به، كقوله تعالى: ﴿إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر﴾(38)، فهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة، إلى ما قد جرت به، وقد اجتمعا في قلع الريح لهما وإهلاكها إياهما، وفي ذلك الآية الدالة على عظيم القدرة والتخويف من تعجيل العقوبة(39).
3- الوجه الثالث: إخراج ما لا يعلم بالبديهة، إلى ما يعلم، كقوله تعالى: ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا﴾(40) فهذا تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة، إلى ما يعلم بها، وقد اجتمعا في الجهل بما حملا، وفي ذلك العيب لطريقة من ضيع العلم بالاتكال، على حفظ الرواية من غير دراية(41).
4- الوجه الرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة، إلى ماله قوة فيها، كقوله تعالى: ﴿وله الجواري المنشآت في البحر كالاعلام﴾(42). فهذا تشبيه قد أخرج ما لا قوة له، في الصفة إلى ما له قوة فيها، وقد اجتمعا في العظم، إلا أن الجبال أعظم، وفي ذلك، العبرة من جهة القدرة فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها، وما في ذلك من الانتفاع بها وقطع الأقطار البعيدة فيها(43). وبهذه النظرة العميقة للتشبيه، ولقيمته البلاغية، يكون الرماني قد فتح بابا جديدا في التشبيه، ومهد طريق البحث البلاغي أمام غيره من الباحثين. وأهم ما يميز بحثه في هذا الباب، غزارة استشهاده بآي الذكر الحكيم، فهو يسير على منهج محدد لإبراز إعجاز القرآن الكريم، وهو المنهج الذي "ينبغي أن يسير عليه الباحثون في كل زمان، وهو شيء يضاف إلى قيمة الرماني العلمية، فيرجح كفته على غيره من العلماء، الذين لم يلتزموا بهذا المنهج في سرد أدلة الإعجاز، كعبد القاهر الجرجاني، الذي حشد كتابه بشواهد من الشعر، حتى ضاعت بينها آيات القرآن، وهي التي عقد الكتاب لأجلها ولإبراز ما فيها من إعجاز"(44).
-3- الاستعــارة:
كان من الضروري أن يواجه الرماني الاستعارة، ويتأمل قدرتها على التأثير في من يتلقى النص القرآني، فهي فن من فنون البلاغة، وجزء من أجزائها العشرة لديه، التي جلى فيها القرآن كثيرا من مواطن إعجازه. ويعرفها قائلا "الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له، في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة"(45)، ومعنى هذا التعريف، أن الكلمة في الاستعارة قد وضعت بإزاء معنى جديد أطلقت عليه، وهو غير المعنى الموضوع لها في اللغة قصد إبانة المعنى وإيضاحه. ويقصد الرماني بإبانة المعنى، استحداث معنى جديد في اللفظ، وجعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة، وهو الأمر الذي عبر عنه بقوله "ومن الفضيلة الجامعة فيها، أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد، حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة موموقة، ومن خصائصها التي تذكر بها وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة درر"(46).
وقد تناول الرماني الخصائص الفنية للاستعارة، كمقدمة لدراسة هذا الفن القولي في القرآن، حيث قال: "وكل استعارة حسنة فهي توجب بلاغة بيان لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة لكانت أولى به، ولم تجز الاستعارة، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة"(47). فالرماني ينص صراحة على أن أسلوب الاستعارة أقوى وأبلغ من أسلوب الحقيقة، ولو كانت الاستعارة تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه الحقيقة، لكان التعبير بالحقيقة أجدى، والشاهد على أن للاستعمال الاستعاري من الفائدة والموقع الحسن ما ليس للاستعمال الحقيقي، ما جاء في القرآن الكريم من الاستعارة على جهة البلاغة، وما تحدثه من تأثير يتداعى إلى القلوب والنفوس عند سماع التعبير بالألفاظ التي دخلتها الاستعارة. فقوله تعالى ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾(48) أبلغ وأحسن مما قصد له من قوله لو قال (عمدنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا). فالاستعارة في لفظ (قدمنا)، قد حققت في الآية دلالة لا يمكن استيعابها في لفظ عمدنا لو استبدلت بها، ولبقيت الصورة المرادة غير ماثلة للعيان كما هو الحال مع الآية. وبهذا الفهم العميق مضى الرماني يحلل الآية الكريمة تحليلا رائعا، موضحا حقيقتها ليبين فضل الاستعارة ووجه بلاغتها، وسر الجمال في التعبير بلفظ (قدمنا) بدلا من (عمدنا). فكل ذلك يجعل القارئ متمثلا للسر البلاغي في التعبير بالاستعارة، يقول الرماني "حقيقة قدمنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه، لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه عاملهم من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال. والمعنى الذي يجمعهما العدل، لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لما بينا. وأما هباء منثورا، فبيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة، إلى ما تقع عليه حاسة"(49). ومثله أيضا قوله تعالى: ﴿فاصدع بما تومر﴾(50) ففي الآية من بلاغة التعبير ودقة المعنى والتفنن في التصوير، ما لا نجده في الاستعمال الحقيقي، فلو قلنا(بلغ ما تومر به) لوجدنا فعل (بلغ)، يضيق عن الإحاطة بالمراد من الآية "لأن الصدع بالأمر لابد له من تأثير كتأثير صدع الزجاج، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير فيصير بمنزلة ما لم يقع. والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ"(51).
فالاستعارة في الآية، هي التي كشفت أصالة ما يريد القرآن التعبير عنه، وكشفت عن إيحائية جديدة في الآية، لا يحس بها السامع في الاستعمال الحقيقي، بحيث يصبح لفظ الاستعارة متميزا لا يسد مسده لفظ آخر، ولا يشاكله تعبير مقارب، وبذلك بلغت الاستعارة في القرآن الكريم مرتبة الإعجاز. ويبدو من هذه الأمثلة التي تقدم بها الرماني، أن بلاغة الاستعارة القرآنية وإعجازها يكمن في قدرتها على تجسيم المعنوي، وتقديمه في صورة حسية ينفعل معه قلب وعقل القارئ والسامع. يقول الدكتور أحمد بدوي متحدثا عن تأثير الاستعارة القرآنية "وإذا أنت مضيت إلى الألفاظ المستعارة رأيتها من هذا النوع الموحي، لأنها أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوي ملموسا محسا...فقد يجسم القرآن المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس، وذلك بعض ما يعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية، ومن أروع هذا التجسيم، قوله سبحانه وتعالى ﴿ولما سكت عن موسى الغضب﴾(52)، ألا تحس بالغضب هنا كأنه إنسان يدفع موسى ويحثه على الانفعال والثورة، ثم سكت وكف عن دفع موسى وتحريضه"(53). ويبدو أن الرماني قد استغل ثقافته الفلسفية الواسعة في تحليلاته للاستعارة القرآنية، فنجده يكثر من ضرب الأمثلة وبيان موضع الاستعارة وأصلها وحقيقتها، ثم يشرح السر في أبلغية الاستعارة على الحقيقة، وقدرتها على التأثير في من يتلقى النص القرآني. ولا غرابة في ذلك، فالرماني لم يكن منفصلا عن الأوساط الفلسفية في عصره، بل كان متأثرا بها ومشاركا فيها. فهو من ناحية "معتزلي والمعتزلي رجل ينبغي أن يكون ما يحسنه من كلام الدين، في وزن ما يحسنه من كلام الفلسفة، وهو من ناحية أخرى منطقي، كانت له طريقة خاصة انفرد بها في دراسة المنطق"(54).
-4- التــلاؤم:
نمضي إلى وجه ثالث من وجوه الإعجاز البلاغي، وهو باب التلاؤم، ويعرفه الرماني بقوله "التلاؤم نقيض التنافر، والتلاؤم تعديل الحروف في التأليف"(55)، فتلاؤم الحروف حسب الرماني شرط من شروط البلاغة، فمن أراد أن يكون كلامه بليغا، فعليه أن يختار من الألفاظ أخفها على اللسان، وأعذبها في الأسماع. ومعنى خفة اللفظ، أن يتركب من حروف خفيفة متقاربة في النطق، ليس فيها تباعد شديد في المخارج، بحيث يصعب الانتقال من مخرج إلى مخرج، ولا التقارب الشديد الذي يجعل بعض الحروف يندغم في بعض، "وإنك بلا ريب تجد ألفاظ القرآن الكريم وجمله بعيدة عن هذا كل البعد، بل إنه المثل الأعلى في ذلك"(56). وقد شرح الرماني ذلك في مقارنة عقدها في باب الإيجاز بين قوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب﴾(57)، والحكمة العربية (القتل أنفى للقتل). فذكر أن الخروج من الفاء إلى اللام في قوله تعالى ﴿في القصاص﴾، أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة في (القتل أنفى)، لبعد الهمزة عن اللام. وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء في ﴿القصاص حياة﴾، أعدل من الخروج من الألف إلى اللام في(أنفى للقتل)(58).
وهذا الرأي يحيلنا على مذهب الجاحظ في التلاؤم، أجود الشعر عنده ما كان متلاحم الأجزاء سهل المخارج. ورديء الشعر ما كان مستكرها، لا يقع بعض ألفاظه ملائما لبعض، يكد على اللسان عند النطق به. يقول الجاحظ: "وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقه ملسا، ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة، تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة ورطبة متواتية، سلسة النظام، خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد"(59).
فالتلاؤم إذن، وصف لابد منه لكي يكون الكلام خفيفا على اللسان، مقبولا في الأذن، موافقا لحركات النفس، مطابقا لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر، وهناك أسباب أخرى يراها الرماني مؤدية إلى التلاؤم عائدة إلى الموهبة والفطنة والإحساس، إلى جانب قرب مخارج الحروف وبعدها حيث يقول: "وبعض الناس أشد إحساسا بذلك وفطنة له من بعض، كما أن بعضهم أشد إحساسا بتمييز الموزون في الشعر من المكسور، واختلاف الناس في ذلك من جهة الطباع، كاختلافهم في الصور والأخلاق"(60). وهذا سبق من الرماني إذ أدرك أن إعجاز القرآن، إنما يدرك بالذوق الذي امتن الله به على عباده، كما امتن عليهم بالصور والأخلاق، فالذوق قدرة فطرية في النفس البشرية، تميز مواطن الجمال في الكلام من مواطن القبح، وهي مغروسة في الإنسان تنمو وتتطور معه وتختلف باختلاف النفوس وأحوالها وهيئاتها. وقد وجدنا من العلماء من اتجه نحو الذوق للكشف عن الإعجاز القرآني، كالسكاكي الذي يعتبر الإعجاز أمرا عجيبا، "يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة. ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين. نعم للبلاغة وجوه متلثمة، ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلى عليك، أما نفس وجه الإعجاز فلا"(61). وفائدة التلاؤم عند الرماني ليست صوتية أو لفظية فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى المعنى فتجعل له قبولا في العقل وارتياحا في النفس، وفي ذلك يقول "والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل المعنى له في النفس، لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة"(62). ومعنى كلام الرماني، إسناد الفائدة إلى اللفظ والمعنى على السواء، فحسن النظم وتعديل الكلام، لا يتأتى إلا بالعناية بالألفاظ والمعاني، وذلك بوضع الألفاظ في مواضعها، فتأتي اللفظة بجانب أختها منسجمة متلاحمة، الشيء الذي يزيد المعنى وضوحا وكشفا وبهاء وحسنا. إلا أن الرماني كسلفه الجاحظ، يرى البلاغة الحقيقية في حسن الصياغة وجمال التصوير، يتجلى ذلك واضحا من خلال المثال الذي ضربه الجاحظ للتلاؤم، فمثله كمثل قراءة الكتاب في أحسن ما يكون من الخط والحرف. وقراءته في أقبح ما يكون من الحرف والخط، فذلك متفاوت في الصورة، وإن كانت المعاني واحدة(63). فالسر كله في القدرة على الصياغة الجميلة، فإذا استطاع المتكلم أن يصوغ المعاني صياغة رائعة، وقدر على أن يبرزها في أسلوب عذب خالص من الشوائب كان الكلام بليغا متلائما.
والكلام عند الرماني على طبقات، متنافر ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا(64). فالمتلائم في الطبقة العليا، أسلوب القرآن الكريم. والمتلائم في الطبقة الوسطى، كلام البلغاء من العرب. أما المتنافر فهو الكلام الذي يستثقله اللسان وتمجه الآذان. وقد رفض ابن سنان الخفاجي هذا التقسيم، فالكلام عنده، إما متنافر أو متلائم ولا واسطة. وتأليف القرآن وفصيح كلام العرب من المتلائم. يقول ابن سنان "وأما قوله (يعني الرماني) إن القرآن من المتلائم في الطبقة العليا، وغيره في الطبقة الوسطى، وهو يعني بذلك جميع كلام العرب، فليس الأمر على ذلك، ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية، ومتى رجع الإنسان إلى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب، ما يضاهي القرآن في تأليفه. ولعل أبا الحسن يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة"(65). وهذا الاختلاف بين الرماني وابن سنان راجع إلى موقف كل منهما من إعجاز القرآن وفصاحته. فرغم وحدة المذهب، فإن الرماني يرى أن فصاحة القرآن، خرقت عادة العرب وخرجت عن مقدورهم، وجرت مجرى قلب العصا حية، ومن ثم كان القرآن في الطبقة العليا من البلاغة والتلاؤم. أما ابن سنان الخفاجي فيرى أن فصاحة القرآن من جنس فصاحة العرب، وفي مقدورهم لو لا صرف الله لهم عن معارضته. ولذلك فلا فرق بين فصاحة القرآن وبين الفصيح من كلام الناس. وهذا الكلام ظاهر الفساد، والصحيح ما قاله الرماني من أن القرآن في الطبقة العليا من التلاؤم، لأننا لا نجد في مختار كلام الناس من الأثر النفسي والعقلي والسمعي، ما نجده عندما نقرأ آيات من القرآن الكريم. فللقرآن الكريم روعة تأخذ القلوب وتهز النفوس، والذي لا يختلف فيه اثنان، أن جانبا من تلك الروعة يرجع إلى "جمال الإيقاع، ومعلوم أن ذلك الجمال الإيقاعي ينبع من التناسب بين العناصر الصوتية واللفظية، أي من الأصوات اللغوية والحركات والمقاطع الصوتية"(66).
وفي ختام هذا الوجه البلاغي نقول، إن التلاؤم اللفظي الذي انفرد به القرآن الكريم أكسب أسلوبه قوة وتماسكا عن طريق انسياب النغم وانسجام اللفظ في الآيات، فجاء القرآن في الطبقة العليا من التلاؤم. وهذا التلاؤم مع حسنه وبلوغ القرآن الكريم فيه الطبقة العليا، إلا أنه لا يقوم وحده صرحا للإعجاز، ما لم تعاضده أمور أخرى. وقد أحس الرماني بذلك فقال بعدما بين فائدة التلاؤم: "فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان في صحة البرهان في أعلى الطبقات، ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام"(67). فبامتزاج التلاؤم اللفظي، وحسن البيان وصحة البرهان، ينتج القول الجميل البليغ، حتى يصل إلى مرتبة الإعجاز.
-5 - الفــواصل:
لقد عد الرماني الفواصل وجها من وجوه بلاغة القرآن الكريم وإعجازه، لما تضفيه على أسلوبه من بلاغة وحسن بيان، وما تحققه من جو موسيقي مؤثر في النفس وفي الطباع، وما توجبه من حسن إفهام للمعاني. ولذلك فاق نظم القرآن غيره من النظوم، وبلغ مرتبة الإعجاز، يقول الرماني "وفواصل القرآن بلاغة وحكم، لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل عليها"(68).
والفاصلة مصطلح خاص بالقرآن، وهي تقابل السجع في النثر، والقوافي في الشعر، وهي كلمة آخر الآية، تقع عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام(69). مثل (القمر) و(مستمر) و(مستقر) في قوله تعالى ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرفوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر﴾(70). وإنما سميت فاصلة، ولم تسم قافية أو سجعا، تكريما للقرآن الكريم بأن يقاس على منظوم كلام العرب، من سجع أو نثر، فالله تعالى "لما سلب عنه اسم الشعر، وجب سلب القافية عنه أيضا لأنها منه، وخاصة به في الاصطلاح، وكما يمنع استعمال القافية فيه، يمنع استعمال الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه"(71). فالقرآن مميز حتى في التسمية عن كلام العرب، وإن وافق صور كلام العرب، وجرى على سنته في الفصاحة والبيان. فليس القرآن نثرا، وإن استعمل جميع أساليب النثر عند العرب، وليس القرآن شعرا، وإن اشتمل على جميع بحور الشعر العربي(72).
والذي لاشك فيه. أن الجمال الصوتي والتناسق الفني والإيقاع الموسيقي، هو أول شيء أحسته الأذن العربية يوم نزل القرآن الكريم وتلاه الرسول r، وذلك لما وجدوا فيه من إيقاع جميل، وفواصل متقاربة في الوزن، تشبه الوزن والقافية في الشعر، فتشوقت الآذان لسماعه، وانقادت النفوس مستسلمة لتعاليمه، وشهدت الألسن بما له من سحر التأثير، وروعة البيان، وكمال الإعجاز. وقد لاحظنا من قبل، أن التعبير القرآني قد أولى الإيقاع الصوتي عناية خاصة، فلا يمكن لأية أذن لها أدنى قدر من الإحساس بالجمال الموسيقي، إلا أن تدرك جمال القرآن الذي تسمعه يرتل ترتيلا، وأن هذا الإيقاع الصوتي تابع لقصر الفواصل وطولها، كما هو تابع لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة. فكل شيء في القرآن "معجز من حيث قوة الموسيقى، في حروفه وتآخيها في كلماته، وتلاقي الكلمات في عباراته، ونظمه المحكم في رنينه، وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات، وكون كل كلمة لفقا مع أختها، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته وتوحد غاياته ومعانيه، تجدها مؤتلفة مع ألفاظه، وكأن المعاني جاءت مؤاخية للألفاظ، وكأن الألفاظ قطعت لها وسويت على حجمها"(73).
ويعرف الرماني الفواصل بأنها "حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني"(74). وهي على وجهين: متجانسة ومتقاربة، فالمتجانسة كقوله تعالى ﴿والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور﴾(75). أما المتقاربة فكقوله تعالى ﴿الرحمان الرحيم، ملك يوم الدين﴾(76) فالميم والنون حرفان متقاربان، وإنما يحسن المجيء بحروف متقاربة في الفواصل، "لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع، ولما فيه من البلاغة وحسن العبارة"(77). ويلاحظ من تعريف الرماني للفاصلة، أنه يعتبرها فضيلة من فضائل القرآن، ووجها من وجوه إعجازه، جمعت بين بلاغة المعنى ومحاسن الصياغة، فهي طريق إلى إفهام المعاني، التي يحتاج إليها في أحسن صياغة وأحسن نظم. وقد عبر عن هذا الرأي في مكان آخر بقوله: "والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع وتحسينها الكلام بالتشاكل وإبداؤها في الآي بالنظائر"(78).
ومعلوم أن حسن صياغة الألفاظ، له أثر كبير في إمتاع النفوس، وإطرابها وتهيئتها لقبول تأثير المعاني التي تتضمنها، ولا يبلغ اللفظ مداه في الإبلاغ والتأثير، إلا بصحة معناه ووضوحه وبهائه. وهذا هو رأي الرماني، فلا تحسن الفواصل لمجردها، ولا تصل إلى درجة البلاغة والإعجاز، إلا إذا أدت إلى إفهام المعاني مع ما يقتضيه ذلك من حسن النظم والتئامه. فأما أن تهمل المعاني، ويهتم بتحسين اللفظ وحده، فليس من البلاغة في شيء. يقول الدكتور أحمد أبو زيد "من أهم الخصائص التي تميز القرآن على كل كلام بليغ، أنه يجمع في كل معنى يطرقه بين الوفاء بحق المعنى وحق الصياغة، وتناسب الفواصل، وأنه استمر على ذلك من أوله إلى آخره، ولم يخل بحق أي من العنصرين ولو مرة واحدة. إن العبارات القرآنية آيات محكمة، فصلت من لدن حكيم خبير، وحين يتدبر البليغ تركيبها من ناحية الصياغة اللفظية، يجد أن حق الصياغة يقتضي التركيب الذي نزلت به، وحين يتدبره من ناحية المعنى وما تقتضيه بلاغته يجد أيضا أن حق المعنى يقتضي ذلك التركيب"(79). وما يؤكد أن فواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة لما تؤدي إليه من إفهام المعاني في أحسن صياغة وأحسن نظم، كثرة وقوع حروف المد واللين في الفواصل، بالقياس إلى غيرها من الحروف، وذلك لأنها تحمل لحنا إيقاعيا لا يوجد في الحروف الأخرى، وتحمل من الحلاوة والإطراب، ما يحدث الانسجام في الإيقاع والترابط في السياق. ولتتضح هذه الأبعاد الصوتية لحروف المد واللين، يحسن بنا أن نسوق هنا مثالا من القرآن الكريم، إذ بالمثال يتضح المقال، يقول الله تعالى: ﴿قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا﴾(80). فنحن حينما نتأمل هذه الآيات نلاحظ أن الفاصلة التي انتهت بها هذه الآيات، تتألف من مقطع يتكون من صوت متحرك هو الراء، ومن صوتين ممدودين هما الألف التي قبل الراء والألف التي بعدها، ولهذين المدين وظيفتين، وظيفة إيقاعية ووظيفة معنوية بلاغية "أما الأولى فيؤديانها بالسماح للصوت بالارتفاع والامتداد في نهاية كل آية بمقدار متناسب. وأما الثانية فيؤديانها بالإسهام في الإيحاء بصورة الجهد الضخم الذي أمضاه نوح u في دعوة قومه، وقد أشار القرآن في مكان آخر إلى أنه u لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما"(81).
وقد يتوهم البعض أن ختام فواصل القرآن المتوافقة هي من السجع، فالتحقيق يقتضي الفصل بين الأمرين، فالفواصل من وجوه بلاغة القرآن وإعجازه، والأسجاع عيب ذلك، أن الفواصل تتبع المعاني، والسجع تتبعه المعاني، يقول الرماني: "الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة، إذ كان الغرض الذي هو حكمة، إنما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليها ماسة"(82). والسجع من المحسنات البديعية التي يعمد إليها المتكلم حين يريد أن يرتفع بكلامه عن منزلة النثر العادي، إلى نثر فني، يتوخى فيه مزيدا من العناية بالصياغة اللفظية، وجمال الأداء، وحده "تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد"(83). وقد يكون دافع الرماني إلى رفض السجع وذمه، رغبته في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي، عن الكهنة وغيرهم، الذي يقصد به اتحاد الحروف، من غير نظر إلى المعنى، ومن غير أن تكون للمعاني في ذاتها قيمة، كما جاء عن بعض الكهان "والأرض والسماء والغراب، الواقعة بنقعاء، لقد نفر المجد إلى العشراء"(84). ومنه ما يحكى عن مسيلمة "يا ضفدع نقي، كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا النهر تفارقين"(85). وقد يكون هناك سبب آخر دفع الرماني إلى رفض السجع وذمه، وهو كثرة شيوع استخدامه في القرن الرابع الهجري، والإفراط في تكلفه والغلو في التأنق اللفظي، الأمر الذي ولد ردود فعل ومواقف سلبية من السجع، حتى لدى أولئك الذين بدا عليهم التأثر بأسلوب السجع والميل إليه. يقول ابن الأثي:ر "وقد رأيت جماعة من متخلفي هذه الصناعة، يجعلون همهم مقصورا على الألفاظ التي لا حاصل وراءها ولا كبير معنى تحتها، وإذا أتى بعضهم بلفظ مسجوع على أي وجه كان من الغثاثة والبرودة، يعتقد أنه قد أتى بأمر عظيم، ولا يشك في أنه صار كاتبا مفلقا، وإذا نظر إلى كتاب زماننا وجدوا كذلك، فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار، ولا يعلم أنه كجواد يمشي تحت حمار"(86).
ويحق لنا أن نتساءل، أكل السجع كسجع الكهان مذموم متكلف يرهق الألفاظ والمعاني؟ ألا يوجد سجع يزيد المعاني قوة، وتكون فيه المعاني متبوعة وليست تابعة؟ فرفض السجع على الإطلاق رأي غير مستقيم، فيه كثير من التعسف، فالسجع لا عيب فيه مادام يأتي طوعا سهلا تابعا للمعاني، وهو من صميم البلاغة، لأن المقصود به، إنما هو اعتدال المقاطع وجريه على أسلوب متفق "لأن الاعتدال مقصد من مقاصد العقلاء يميل إليه الطبع وتتشوق إليه النفس"(87). لذلك لم يوافق علماء كثيرون الرماني في موقفه من السجع، مثل (أبي هلال العسكري) و(ابن سنان الخفاجي) الذي رد على الرماني وغيره ممن ينفون السجع عن القرآن بقوله "وأما قول الرماني أن السجع عيب، والفواصل بلاغة على الإطلاق فغلط. لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعا للمعنى، وكأنه غير مقصود، فذلك بلاغة والفواصل مثله. وإن كان يريد بالسجع، ما تقع المعاني تابعة لها وهو مقصود متكلف، فذلك عيب والفواصل مثله"(88). يلاحظ من هذا النص أن (ابن سنان) يعيب ما ينافي البلاغة سواء أكان سجعا أو فواصل، ولا مانع من أن يوصف القرآن بأن فيه سجع، ولكنه سجع في أعلى مراتب الكلام بحيث لا يمكن أن يجاريه أحد، ولا يصل إلى علوه أحد من الخلق. وكيف يجاري كلام مسيلمة "يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا النهر تفارقين"(89) كلام الله تعالى إذ يقول ﴿والفجر وليال عشر، والشفع والوتر والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الاوتاد، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد﴾(90). فهذه الآيات حسب ابن سنان من سجع القرآن، وهو سجع في أعلى مراتب البلاغة والإعجاز، ترى فيه الفقرات متعادلة الأجزاء، رقيقة النغم موجزة اللفظ وافية بالمعنى، فيها وزن وموسيقى ورنين، وهذا ما يقال له السجع.
فابن سنان ومن لف لفه من النقاد والبلاغيين، إذ يفسر السجع بأنه الاتحاد في حروف المقاطع، من غير أن يكون المعنى تابعا للفظ، يحكم بأن القرآن الكريم فيه سجع فوق قدرة البشر أن يأتوا بمثله، أما الرماني وغيره من العلماء ممن نفوا السجع عن القرآن، فيرون أن السجع كالشعر، يكون المعنى فيه تابعا للقافية والأوزان. فكما نزه الله تعالى كتابه الكريم عن الشعر، فقال عز من قائل: ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين﴾ (91). فهو كذلك منزه عن السجع، وإن اتحدت حروف مقاطعه. ومهما يكن من أمر، فالقرآن الكريم قد نزل بلغة العرب، وعلى عرفهم وعاداتهم في الكلام، وقد وردت فيه الفواصل بإزاء الأسجاع، وأكثر البلاغيين يوردون شواهد للسجع من القرآن الكريم، ويقرون صراحة بوجوده فيه. غير أن ما يجب التنبيه إليه أن السجع عند العرب له مهمة لفظية في غالب الأحيان، حيث يؤتى به لتحقيق التناسق بين أواخر الكلمات في الفقرات وتلاؤمها. أما مهمة الفاصلة القرآنية فهي مهمة لفظية معنوية في وقت واحد، فلا تفريط في الألفاظ على سبيل المعاني، ولا اشتطاط بالمعاني من أجل الألفاظ، "لذلك ارتفع مستوى الفاصلة في القرآن بلاغيا ودلاليا، عن مستوى السجع فنيا، وإن وافقه صوتيا"(92).
-6- التجــانس:
التجانس هو الباب السادس من أبواب البلاغة التي يتحقق بها إعجاز القرآن، ويعرفه الرماني بقوله: "هو بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل اللغة"(93). ويقصد الرماني بالتجانس، الجناس أو التجنيس، وهو تشابه لفظين في النطق مع اختلاف المعنى، كما في قوله تعالى، في وصف حال الكفار يوم القيامة ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة﴾(94). فلفظ (ساعة) الأولى، قصد به يوم القيامة، و قصد بالثاني، المدة الزمانية، فلو قيل (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير وقت قصير) لفات على السامع السر في بلاغة الجناس، ولفقدت الآية بلاغتها وحسن نظمها وسبكها. فالجناس من المحاسن اللفظية والألوان البديعية، التي لها تأثير بليغ في النفوس، ووقع في القلوب، بما تحدثه من انسجام في النغم، وتقارب في الأصوات، نتيجة للمشابهة اللفظية، ذلك أن "مناسبة الألفاظ تجدد ميلا وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوق إليه"(95).
والتجانس عند الرماني على وجهين: مزاوجة ومناسبة. أما المزاوجة، فأن تجعل اللفظة الثانية المتجانسة للأولى زوجا لها، من غير مناسبة بينهما، وتقع في الجزاء، كما في قوله تعالى، ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾(96). أي جازاهم على مكرهم، فاستعير للجزاء على المكر اسم المكر، لتحقيق الدلالة على أن وبال المكر، راجع إليهم ومختص بهم(97). ومنه قوله تعالى ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾(98). أي جازوه بما يستحق طريق العدل، إلا أنه استعير للثاني لفظ الاعتداء، لتأكيد الدلالة على المساواة في المقدار، فجاء على مزاوجة الكلام لحسن البيان(99). وأما المناسبة فتدور في فنون المعاني التي ترجع إلى أصل واحد، من مثل قوله تعالى ﴿ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم﴾(100). فجونس بالانصراف عن الذكر، صرف القلب عن الخير، والأصل فيه واحد، وهو الذهاب عن الشيء، أما هم فذهبوا عن الذكر، وأما قلوبهم فذهب عنها الذكر(101).
والجناس ككل محسن بديعي، يهدف إلى إحداث تأثيرين: أحدهما صوتي، بما يحدثه من جمال موسيقي تطرب له الأذن وتهتز له القلوب، والآخر معنوي، ناتج من سرعة الاستدعاء اللفظي للمعنى المراد التعبير عنه، وذلك ما عناه الرماني في باب التجانس، حين عده وجها من وجوه إعجاز القرآن. فالصورة اللفظية الحسية للجناس مع جمالها، لا يصح أن تصرفنا ولا تحجب عن ذهننا ما استتر من لطائف المعاني ودقائق الأغراض، و يظهر لنا هذا الأمر بوضوح، من خلال التقسيمين اللذين ارتضاهما الرماني للتجانس في قوله تعالى ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾(102). فإن الجناس في الآية قد حقق جمالا موسيقيا، وزاد الكلام حلاوة ورونقا، بما أضافاه عليها من التلوين اللفظي والصوتي. وربما يعتقد البعض، أن الرماني قد أدخل في التجنيس ما ليس منه، لأنه جانس بين لفظ اعتدى واعتدوا، دون اختلاف المعنى بينهما، إذ حد التجنيس: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، وفي الآية اتفاق اللفظ والمعنى. لكن الأمر خلاف ذلك، فالمراد بالاعتداء في اللفظة الأولى، هو المعنى الحقيقي للكلمة. والاعتداء معناه في أصل اللغة وفيما عليه العرف، مجاوزة الحد المحدود، ونقض الحرمة المحترمة(103). والمراد بالاعتداء في اللفظة الثانية، إنما هو جزاء الاعتداء الذي هو القصاص. يفسر الفراء هذه الآية قائلا "فالعدوان من المشركين في اللفظ ظلم في المعنى، والعدوان الذي أباحه الله وأمر به المسلمين، إنما هو القصاص، فلا يكون القصاص ظلما وإن كان لفظه واحدا. ومثله قول الله تبارك وتعالى ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾(104). وليست من الله على مثل معناها من المسيء لأنها جزاء"(105). فالنظم القرآني إذن، جانس بين اللفظتين، ليحقق المعنيين معا. القصاص من جهة، وتوكيد العدالة مع المساواة في المقدار من جهة ثانية، وبذلك تكون الآية الكريمة، قد جمعت بين ما هو لفظي صوتي، وما هو معنوي، وإعجازها يرجع إلى دلالة اللفظ وأدائه لمعناه، ولاشيء فيها للفظ بذاته، من حيث هو حروف وأصوات.
وباعتبار أن فكرة الإعجاز –كما يقول نصر حامد أبو زيد– تسلم بداهة بمبدإ التباين بين كلام الله وكلام البشر، من حيث الأسلوب والصياغة(106)، فإن الرماني يعود مرة أخرى ليعقد مقارنة بين التجانس في القرآن، والتجانس في كلام العرب، وهم أفصح الناس وأبلغهم، ليبرز التفاوت بين الكلامين، وليثبت بلاغة القرآن الكريم وإعجازه في هذا الباب، فيمثل للقرآن الكريم بقوله تعالى ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾(107). ويمثل لكلام العرب بقول (عمرو بن كلثوم).
ألا لا يجهـلن أحـد عـلينا *** فنجهل فوق جـهل الجاهـلينا(108).
حيث انتهى إلى أن بيت (عمرو بن كلثوم ) وإن كان بليغا، لكنه دون بلاغة القرآن الكريم "لأنه لا يؤذن بالعدل كما أذنت بلاغة القرآن، وإنما فيها الإيذان براجع الوبال فقط، والاستعارة للثاني أولى من الاستعارة للأول، لأن الثاني يحتذى فيه على مثال الأول في الاستحقاق، فالأول بمنزلة الأصل، والثاني بمنزلة الفرع الذي يحتذى فيه على الأصل، فلذلك نقصت منزلة قولهم: الجزاء بالجزاء عن الاستعارة بمزاوجة الكلام في القرآن"(109).
-7- التصــريف:
ننتقل إلى القسم السابع من أقسام البلاغة العشرة، وهو باب التصريف ومعناه في اللغة التغيير، ومنه تصريف الرياح، وهو صرفها من جهة إلى جهة، وتحويلها من حال إلى حال(110). وبمعنى أدق، التصريف هو تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة، لمعان مقصودة لا تحصل إلا به، أي بهذا التحويل(111). وأهمية التصريف كبيرة، فهو يدل على شرف اللغة العربية، وفضلها على جميع اللغات، فالكلمة تنقلب إلى ضروب من التقليب، مع الدلالة على معنى واحد، يقول (ابن عصفور) في كتابه (الممتع في التصريف): "فالذي يبين شرفه، احتياج جميع المشتغلين باللغة العربية، من نحوي، ولغوي إليه، أيما حاجة، لأنه ميزان العربية، ألا ترى أنه قد يؤخذ جزء كبير من اللغة بالقياس، ولا يوصل إلى ذلك، إلا من طريق التصريف، نحو قولهم: كل اسم في أوله ميم زائدة مما يعمل به وينقل، فهو مكسور الأول نحو(مطرقة، مروحة)، إلا ما استثني من ذلك. فهذا لا يعرفه إلا من يعلم أن(الميم) زائدة، ولا يعلم ذلك إلا من جهة التصريف"(112). ولاشك أن ثقافة الرماني الواسعة في النحو واللغة، جعلته يهتم بهذا الباب، ويعده وجها من وجوه الإعجاز البلاغي، ويكمن إعجاز القرآن في هذا الباب، في قدرته على أن يأتي "في المعنى الواحد، بالدلالات المختلفة، فيما هو من البلاغة في أعلى طبقة"(113). وذلك كما جاء في قوله تعالى: ﴿قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء﴾(114). فالإعجاز في هذه الآية لا يعود إلى ما اشتملت عليه من صيغ مختلفة لضروب من المعاني لفعل (ملك)، وإنما إعجاز الآية يكمن في روعة تأليفها، وبراعة تركيبها، وحسن نظمها لتلك الصيغ. أما أن نقول إن موضع الإعجاز في الآية، يرجع إلى التصريف منفردا عن سياقه فذلك محال، لأن جعل الكلمة على صيغ مختلفة، لضروب من المعاني، ليست من عمل صاحب النظم، "بل هي موجودة في أصل اللغة قبل التأليف والنظم، وإنما يعد في أقسام البلاغة ما يكون من عمل صاحب النظم"(115).
والتصريف عند الرماني على ضربين: تصريف لفظ، وتصريف معنى. أما تصريف اللفظ فهو: "تصريفه في الدلالات المختلفة، وهي عقدها به على جهة التعاقب"(116)، وأراد بعقدها به على جهة التعاقب: صياغته في اشتقاقات مختلفة تناسبه مناسبة قريبة، وترجع إليه في الاشتقاق، وذلك كتصريف (الملك) في معاني الصفات "فصرف في معنى مالك وملك وذي الملكوت والمليك وفي معنى التمليك والتمالك والإملاك والتملك والمملوك"(117). فهذه الألفاظ وإن انتسبت جميعها إلى لفظ (الملك)، إلا أنها ليست هي به على الحقيقة، فيكون كل معنى منها قائما مقامه، لأنها لو كانت كذلك، لصلح استعمالها في موضع واحد، وليس يصلح ذلك، وإنما يستعمل كل واحد منها في موضعه الذي هو أخص به. وفائدة هذا الضرب من التصريف في دلالته على إعجاز القرآن ما فيه من "بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه"(118). وهذا النوع من التصريف جاء في القرآن الكريم في معرض حديثه عن قصص الأنبياء عليهم السلام، وقد بلغ القرآن الكريم فيه مرتبة الإعجاز، لأن تكرير المعنى الواحد، بعبارات مختلفة دون إخلال بالمعنى، أو اللفظ، أو بلاغة الخطاب، أمر لا يقدر عليه البشر. فقصة موسى u ذكرت في أكثر من سورة في القرآن، فقد ذكرت في سورة الأعراف، وطه، والشعراء، والقصص، والنمل، وغيرها من السور. ونجد ما يعاد ذكره من هذه القصة في كل السور غير مختلف ولا متفاوت، بل هو في نهاية البلاغة وغاية البراعة. ولذلك عد الرماني هذا النوع من التصريف، وجها من وجوه الإعجاز البلاغي، لأن تكرير القصة الواحدة بعبارات مختلفة، يدل على اقتدار المكرر لها على التصرف في أنواع البلاغة، من غير نقصان عن أعلى مرتبة، ويدل أيضا على معنى تلك القصة دلالة بعد دلالة، لتمكين العبرة والموعظة والحث على الاعتبار(119).
-8- التضــمين:
التضمين من المحسنات اللفظية التي يكتسب بها الكلام حلاوة وقوة، ويقصد به أن يضمن الشاعر شعره، والناثر نثره، كلاما آخر لغيره قصدا، للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود . وذلك كما روي عن الإمام الشافعي قوله:
عمدة الـخير عـندنا كلمات *** أربـع قالـهن خير الـبرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما *** ليس يعنيك واعـملن بـنيه(120).
تكشف هذه الأبيات، عن مهارة الشافعي في إحكامه الصلة بين كلامه، وكلام رسول الله r، حيث ضمن أبياته حديث رسول الله r ÿالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهاتÿ(121). وحديثه u ÿازهد في الدنيا يحبك اللهÿ(122). وقوله u ÿ من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيهÿ(123). وقوله u ÿإنما الأعمال بالنياتÿ(124). والتضمين في مفهوم الرماني، هو تضمين الكلام عدة معان دون ذكرها، أو التلفظ بها، حيث يقول: "تضمين الكلام هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه"(125)، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾(126). لقد تضمنت هذه الآية معاني زائدة على المعاني المعبر عنها بالألفاظ الداخلة في نظم الآية، فمدلول ظاهر الآية، طلب الهداية من رب العالمين إلى الطريق المستقيم، طريق غير المغضوب عليهم من اليهود، ولا الضالين من النصارى. وقد تضمنت الآية إلى جانب هذا المعنى الظاهر، معنى الوعد والوعيد، والتبشير والتحذير، دون التلفظ بها، لأن قوله U ﴿صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فيه إشارة لطيفة، إلى أن "من سلك الصراط المستقيم فهو ممن قد أنعم الله عليه، ومن أنعم عليه، سعد في الدنيا والآخرة، ومن سلك غير الصراط المستقيم فقد ضل واستحق من الله جل وتعالى الغضب"(127).
فالتضمين عند الرماني، ليس هو تضمين الكلام كلاما آخر لغيره، قصدا للاستعانة به على تأكيد المعنى المقصود، كما جاء في أبيات الإمام الشافعي السالفة الذكر. وكما جاء في أبيات أبي نواس في مخاطبته بعض خلطائه على مجلس الشراب:
فـقلت هل لك في الصهباء تأخذها *** من كف ذات هن فالعيش مـقتبل
حـيرية كشعاع الشمس صـافية *** يـحيط بالكأس من لألائها شـعل
فـقال هـات واستمعنا على طرب *** ودع هـريرة إن الركب مـرتحل(128).
حيث ضمن البيت الأخير مطلع قصيدة الأعشى:
ودع هـريرة إن الركب مـرتحل *** وهل تطيق وداعا أيـها الـرجل(129).
وإنما التضمين عنده: هو تضمين معان زائدة دون التلفظ بها كما سبق وأوضحنا في الآية السابقة، وهو أمر لا يقدر عليه سوى البلغاء من الناس. أما القرآن الكريم فلا تخلو آية منه من تضمين ومن دلالات، يدركها المتأمل لكتاب الله ولآياته، من غير أن يكون في اللفظ عبارة عنها بتسمية أو صفة، ومن ذلك قوله تعالى ﴿بسم الله الرحمان الرحيم﴾ فهذه الآية تضمنت "التعليم لاستفتاح الأمور على التبرك به والتعظيم لله بذكره، وأنه أدب من آداب الدين، وشعار المسلمين، وأنه إقرار بالعبودية واعتراف بالنعمة التي هي أجل نعمة، وأنه ملجأ الخائف ومعتمد المستنجح"(130). والتضمين عند الرماني على وجهين:
1- تضمين توجبه البنية: فالصفة بمعلوم توجب أنه لابد من عالم، وكذلك مكرم، توجب أنه لابد من مكرم(131).
2- تضمين يوجبه معنى العبارة وهو نوعان:
الأول تضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به، مثل الصفة بقاتل يدل على مقتول، من حيث لا يصح معه معنى قاتل ولا مقتول، فهو على دلالة التضمين(132).
الثاني تضمين يوجبه معنى العبارة من جهة جريان العادة، كقولهم (الكر بستين)، المعنى فيه( بستين دينارا). فهذا مما حذف، وضمن الكلام معناه لجريان العادة به(133). والتضمين عند الرماني كله إيجاز استغني به عن التفصيل(134)، إذ كان اللفظ فيه دالا دلالة الإخبار على معان كثيرة، فاقتصر المتكلم على اللفظة الدالة على تلك المعاني ولم يفصلها، وهو التعريف نفسه الذي ارتضاه الرماني للإيجار إذ يقول: "والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير"(135). والإيجاز هو "تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى"(136).
فإذا كان الرماني – كما رأينا سابقا في باب الإيجاز- قد أولى عناية كبيرة لكل من اللفظ والمعنى، فإنه أولى لهذه الثنائية في هذا الباب القدر نفسه من العناية والأهمية. يظهر ذلك من تعريفه للتضمين، بأنه تضمين الكلام عدة معان من غير ذكر له باسم أو صفة، فهذه العبارة على إيجازها، تعبر عن رأي الرماني أدق تعبير، فالتضمين وإن كان من المحسنات اللفظية التي يزدان بها الكلام وتكسبه بهاء وخلابة، فهو في الوقت ذاته مظهر من مظاهر التأنق في تجلية المعاني وحسن تأديتها، ولا نجد مثل هذا التضمين إلا في أسلوب القرآن الكريم، فهو الأسلوب البليغ المعجز. ولعل أهم ما يثير القارئ لرسالة الرماني في هذا الباب، والباب الذي قبله، طريقة الرماني في الكلام والتحليل، فهي طريقة فلسفية منطقية كلامية، تظهر قدرته الفائقة على الجدال والمناظرة، كما رأينا في الوجوه الستة الأخرى التي ارتضاها الرماني للإعجاز القرآني. وربما كان الطابع الكلامي للرماني، وراء ذلك التعقيد الذي تميز به أسلوبه في تحليل وجوه الإعجاز، مما يحوج قارئ رسالته في كثير من الأحيان، إلى بعض الجهد لفهم المراد من كلامه. يقول الدكتور شفيع السيد: "فالتصريف والتضمين كما أوضحهما، ليسا من البلاغة في شيء، وإنما هما أقرب إلى ميدان علم الكلام الذي كان هو واحدا من فرسانه، وليس هناك أدنى صلة بين (التضمين) عنده، وظاهرة (التضمين) المعروفة في البديع، لهذا لم يعتد أحد من البلاغيين بهذين الوجهين، ولا نكاد نرى لهما أثرا فيما نعرف من كتب التراث البلاغي"(137).
-9- المبالغــة:
وقد سمى بعض علماء البلاغة هذا الوجه بالإفراط(138). وسماه آخرون (كقدامة ابن جعفر) (بالمبالغة). ويعرفها بقوله "هي أن يذكر الشاعر حالا من الأحوال في شعر لو وقف عليها لأجزأه ذلك في الغرض الذي قصده، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال، ما يكون أبلغ في ما قصد"(139). ومما ورد من ذلك في الشعر قول عنترة:
أنا المنية حين تشتجر الـقنا *** والطعن مني سابق الآجـال(140).
فعنترة يدعي أن شجاعته وقوته بلغت حدا بعيدا، حتى صار كل من يدخل معه في معركة، إلا وقد سيق إلى أجله قبل أن يحين أجله. وقد وقف النقاد والبلاغيون من البلاغة مواقف متباينة، فمنهم من رأى أن أحسن الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه، ومنهم من رأى أن المبالغة من عيوب الكلام، إذ لا يلجأ المتكلم إلى المبالغة إلا عند عجزه عن أن يخترع معنى مبتكرا(141). وليس غرضنا مناقشة هذه الآراء، لأن كلامنا موجه بالأساس للحديث عن هذا الوجه البلاغي عند الرماني، فلا نرى ضرورة في أن نتوسع في القول عن هذا الاختلاف، فهناك كتب كثيرة تعرضت لهذا الموضوع بالبحث والدراسة(142). وإنما غرضنا أن نبين أسلوب معالجة الرماني لهذا الوجه البلاغي، فالرماني كما أشرنا سابقا، مستقل في تفكيره وتصوره لكثير من الوجوه البلاغية، وهذا ما نلمسه بشكل واضح في معالجته لهذا الوجه الذي يعرفه بقوله:"المبالغة هي الدلالة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانة"(143). فهذا التعريف يتفق مع تعريف (قدامة) الآنف الذكر، لكن الجديد الذي أضافه الرماني إلى تعريفات غيره من البلاغيين للمبالغة هي قوله: "على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانة". فالمبالغة تتم من خلال التغيير، الذي يطرأ على أبنية الأسماء في أصل اللغة مثل، (فعولن أو فعال أو مفعل) كما في قوله تعالى: ﴿وإني لغفار لمن تاب﴾(144). معدول عن غافر للمبالغة(145). وقد رفض هذا التعريف شارح رسالة الرماني لأن الأبنية المعدولة عن أصولها، موجودة في أصل اللغة، كالأسماء المفردة الموجودة في أصل اللغة، وما هو موجود في أصل اللغة ليس منسوبا إلى بلاغة البليغ، وإنما يعد من البلاغة ما يكون من البلغاء في نظمهم الذي ينظمونه من مبالغة في الصفة، أو إطناب أو إيجاز أو غير ذلك من العمل مما هو منسوب لهم، فأما من "استعمل من الأسماء ما بني على فعول أو فعال، فإنما سبيله في استعماله كسبيل من استعمل سائر الأسماء المختلفة الأبنية. ألا ترى أن قول القائل من العامة (فلان كذاب أو كذوب، أو فلان غدار) ليس يسمى بهذا القدر من الكلام بليغا، كما أنه إذا قيل (فلان مقيم وفلان شاخص) لم يكن هذا القدر من كلامه معدودا في باب البلاغة، لأن العلم بمواضع هذه الأسماء التي تستعمل فيها، هو من شرط العلم باللغة، وليس هو من شرط البلاغة. وإنما يكون المبالغة معدودا في باب البلاغة، إذا سلك المتكلم مسلكا من النظم، يزيد المعنى الذي يريد تقريره بيانا ووضوحا، حتى يبلغه غايته أو يجاوزها به"(146).
وهذا الكلام صحيح لا غبار عليه، لكننا نعتقد أن الرماني لم يكن غافلا عن هذا الأمر، فهو كغيره من علماء الإسلام يؤمن بأن إعجاز القرآن، يكمن في عجيب نظمه، وبديع تأليفه، وروائع معانيه، وأن هذا النظم مخالف لما عداه من نظوم البشر. وإذا كان الرماني قد أغفل الحديث عن هذا النظم في رسالته، فذلك لا يعني أنه ينظر إلى الوجه البلاغي للقرآن منعزلا عن سياقه، كأن يكون موضع التشبيه مثلا أو الاستعارة أو المبالغة بمفرده معجزا. إنه لا يفصل بين نظام التأليف القرآني، وفنون البلاغة وصور البديع، أعلى مراتب البيان ما جمع "أسباب الحسن في العبارة، من تعديل النظم حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان، وتتقبله النفس تقبل البرد"(147). ومن ثم فالرماني لا يمتدح أسلوب المبالغة، لما يحتويه من أسماء وأبنية موجودة في أصل اللغة، وإنما تدخل المبالغة عنده في باب الإعجاز عندما يعمل التعبير معنى مؤلفا من حقائق مترابطة يسند بعضها بعضا، أو بتعبير آخر عندما تتفاعل الألفاظ مع المعاني، وينتج عنها جمال التعبير وصدق التصوير. ولا نجد مثل هذه المبالغة من حيث الدقة في اختيار الألفاظ، وانسجامها في سياقاتها المختلفة، إلا في أسلوب القرآن الكريم، لذلك صارت المبالغة وجها من وجوه الإعجاز القرآني. والمبالغة عند الرماني على وجوه:
الوجه الأول: المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية لمعنى المبالغة، وهي على أبنية كثيرة منها: فعلان كرحمان، عدل عن (راحم) للمبالغة، وفعال كغفار وتواب وعلام، مثل قوله تعالى ﴿وإني لغفار لمن تاب﴾(148). فغفار معدول عن غافر للمبالغة. ومن ذلك فعول كغفور وشكور وودود، ومنه مفعل كمطعن، ومفعال كمنحار ومطعام(149).
الوجه الثاني: المبالغة بالصيغة العامة في موضع الخاصة، كقوله تعالى ﴿خالق كل شيء﴾(150). أو كقول القائل: (أتاني الناس). ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم، وبالغ في العبارة عنهم(151). واستشهاد الرماني لهذا الوجه بقوله تعالى ﴿خالق كل شيء﴾ فيه نظر، لأن الحق سبحانه وتعالى خالق حقيقة كل شيء، فلا مبالغة في الآية أبدا. إلا أن الرماني الذي ينطلق في تحليله من عقيدته الاعتزالية، لا يجد حرجا في إدخال هذه الآية في باب المبالغة. ومعنى ذلك، أنه يستثني أن يكون الله خالق كل شيء، وهو بذلك يريد أن ينفي خلق الله لأفعال العباد، حتى لا يتوهم أن يكون في ذلك نوع من الجبر والقهر ينافي عدله سبحانه، فالإنسان في المذهب الاعتزالي هو الذي يخلق أفعاله بمقتضى حريته واختياره. والذي حملهم على ذلك هو إيمانهم بعدالة الله وتنزهه عن الظلم، فما كان الله سبحانه ليعاقب إنسانا على عمل وجهه إليه وأعانه عليه، لأن من أعان فاعلا على فعله، ثم عاقبه عليه كان جائرا. والعدل من صفات الله تعالى، والظلم والجور منفيان عنه(152). فإثبات حرية الإنسان واختياره لأفعاله، هي من وجهة نظر المعتزلة من مستلزمات العدل الإلهي، إذ لا يعاقب إنسان ولا يثاب، إلا بمقتضى حرية واختيار يباشر بهما أفعاله، وهذا هو مناط التكليف، فعقيدة الرماني الاعتزالية هي التي دفعته للاستشهاد بهذه الآية، لأن لفظ (كل) في الآية لا يقصد عمومها، لأن أفعال الناس مستثناة بالدليل العقلي من هذا العموم.
الوجه الثالث: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، كقول القائل (جاء الملك) إذا جاء جيش عظيم له، ومنه قوله تعالى ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾(153)، فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئا له على المبالغة في الكلام(154). فالواضح أن الرماني في هذا الوجه أيضا، يلتزم بأصول ومبادئ المعتزلة في التنزيه الإلهي وعدم مماثلته للأشياء والأجسام، فكل شيء يتنافى مع وحدانيته تعالى فنده المعتزلة بالأدلة العقلية، ورفضوا أن يأخذوا الآيات التي تحمل معاني التشبيه والتجسيم على علاتها، وحملوها على المجاز وأولوها تأويلات تتفق مع وحدانية الله وتنزهه عن التشبيه. فليس ثمة مجيء لله تعالى حقيقي، وإنما المراد مجيء الدلائل الدالة على قدرته تعالى، أما علماء السنة فيقدرون محذوفا، والتقدير عندهم (وجاء أمر ربك )(155).
الوجه الرابع: إخراج الممكن إلى الممتنع للمبالغة نحو قوله تعالى: ﴿ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾(156). وهذا إنما هو على البعيد ومعناه، لا يدخل الجمل في سم الخياط ولا يدخل هؤلاء الجنة .
الوجه الخامس: إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدول والمظاهرة في الحجاج(157). كقوله تعال: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾(158). أي أن أحد الفريقين لعلى هدى أو في ضلال مبين، ولابد من أن يكون أحد الادعاءين صحيح يؤدي إلى الفوز والنجاة، والآخر فاسد يؤدي إلى الهلاك، فاثبتوا على ما ادعيتم، فستكشف لكم العاقبة صحة ما ادعيتم أو فساده، فهذا من أبلغ الزجر وأعظم التخويف بالعاقبة.
الوجه السادس: حذف الأجوبة للمبالغة كقوله تعالى:﴿ولو ترى إذ وقفوا على النار﴾(159). وقوله U: ﴿ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب﴾(160). وقوله U: ﴿ص والقرآن ذي الذكر﴾(161). كأنه قيل، لجاء الحق أو لعظم الأمر أو لجاء بالصدق، كل ذلك يذهب إليه الوهم لما فيه من التفخيم، والحذف أبلغ من الذكر، لأن الذكر يقتصر على وجه، والحذف يذهب فيه الوهم إلى كل وجه من وجوه التعظيم لما تضمنه من التفخيم(162).
وقبل أن ننتقل إلى آخر قسم من أقسام البلاغة العشرة، نقول: إن دراسة الرماني لباب المبالغة اتسم بالدقة والفهم العميق، والالتزام بالمنهج الفني البلاغي البعيد عن الجدل الكلامي، والتعقيد الفلسفي، كما رأينا في باب التصريف والتضمين، وكذا الالتزام بمبادئ المعتزلة في العدل والتوحيد، وهذا ما يؤكد لنا كثافة الدورالمذهبي في تشكيل الخطاب البلاغي عند الرماني وغيره من علماء الإسلام.
-10- البيــان:
نمضي إلى القسم العاشر والأخير من أقسام البلاغة العشرة، الذي يظهر بها إعجاز القرآن البلاغي وهو البيان. والبيان في اللغة: ما يبين به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيء بيانا: اتضح، والبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب، وأصله الكشف والظهور(163). فتسمية الكلام بيانا ناجم عن إظهار المعنى المقصود والكشف عنه وإفهامه، فالمعاني خفية ومحجوبة مكنونة، لا يظهرها إلا الإخبار عنها "وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور، كانت أنفع وأنجع، والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله U يمدحه ويدعو إليه ويحث عليه. بذلك نطق القرآن وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف العجم"(164). هذا ما ارتآه الجاحظ في تعريفه للبيان، فهو اسم جامع لكل شيء كشف القناع عن المعنى، سواء تم ذلك بالقول المنطوق أو المكتوب أو كان بالإشارة أو الهيئة التي يبدو عليها الشيء، والتي يطلق عليها دلالة الحال، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع(165). وقد اقتفى الرماني أثر الجاحظ وحذا حذوه في فهمه وتعريفه للبيان، فهو عنده بمعنى الوضوح والانكشاف والإظهار للمعنى الغامض، والإعراب عما في النفس من خواطر وأفكار، بل لا تختلف دلالات هذا البيان عنده، عن تلك الدلالات التي يتحقق بها البيان عند الجاحظ. يقول الرماني: "البيان هو الإحضار لما يظهر به تميز الشيء من غيره في الإدراك، والبيان على أربعة أقسام، كلام وحال وإشارة وعلامة"(166). ويقصد الرماني بالإحضار كل ما يظهر المعنى المقصود ويوصله إلى الذهن، سواء كان كلاما أو رسما أو رمزا أو إشارة.
فالرماني إذن حين استخدم كلمة (البيان) عنوانا للباب العاشر من أبواب البلاغة العشرة التي يعرف بها إعجاز القرآن، لم يكن يقصد معناه الاصطلاحي الذي تعارف عليه البلاغيون في ما بعد باسم (علم البيان) ثالث علوم البلاغة، إلى جانب (علم المعاني) و(البديع) الذي يعرفه القزويني قائلا "علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه"(167). وإنما كان يقصد المعنى العام المطلق لكلمة (بيان) المشتمل على معايير القول وموازين الكلام. ومما يدل على ما ذهبنا إليه أنه جعل هذا البيان قسما من أقسام البلاغة العشرة، وجعل التشبيه والاستعارة اللذين هما جزءان من علم البيان قسيمين معادلين له وليس فرعين عنه.
والكلام عند الرماني على وجهين: كلام يظهر به تميز الشيء عن غيره فهو بيان، وكلام لا يظهر به تميز الشيء، فليس ببيان، كالكلام المخلط والمحال الذي لا يفهم له معنى(168). فالغاية من البيان، الإبانة وتمييز الشيء عن غيره، أو كما قال الجاحظ هي الفهم والإفهام، لكن ذلك لا يقتضي أن يكون كل كلام أبان عن المعنى وأفهمه يسمى بليغا، من قبل أنه قد يكون الكلام على عي وفساد ويبين عن المعنى المقصود "كقول السوادي وقد سئل عن أتان معه فقيل له: ما تصنع بها، فقال أحبلها وتولد لي"(169). فهذا كلام قبيح فاسد، وإن كان قد فهم به المعنى وأبان عن المقصود، فحسن الإفهام شرط في البيان، لا مجرد الإفهام مع عي وفساد، لأنه لو اقتصر تعريف البيان على ما يظهر به تميز الشيء من غيره لكان كلام ( السوادي) بيانا، لأنه قد عبر عن غرضه في إمساك (الأتان) وهو الحبل الذي يطلبه، والولاد الذي ينتظره. والبيان الحسن هو ما جمع أسباب البلاغة وأبان عن المعاني بأحسن الألفاظ وأقربها تناولا، وأخفها مؤونة على القائل والسامع. يقول الرماني "وحسن البيان في الكلام على مراتب: فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة، من تعديل النظم حتى يحسن في السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبل البرد، وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقه من المرتبة"(170). ويفهم من كلام الرماني أنه يشترط تحقق أربعة أمور لعلو مرتبة البيان وهي: حسن الوقع في السمع، والخفة على اللسان، وحسن التقبل في النفس، وأن يكون المقال على قدر المقام. وهذا الرأي يدل على مذهب كان الجاحظ أول من نادى به في تاريخ النقد والبلاغة، وهو مذهب الصنعة والافتنان في الصياغة، فقيمة البيان أو الأدب في رأي الجاحظ ترجع إلى إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وإلى صحة الطبع وجودة السبك، لأن الأدب أو الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير(171). والرماني من أنصار هذا المذهب، فالشأن كل الشأن للصياغة والانسجام الصوتي، لذلك نجده يشترط في حسن التأليف، أن يكون اللفظ خفيفا على اللسان، عذبا في الأسماع، بريئا من التعقيد، مشاكلا للمعنى، موافقا لمقتضى الحال، مقبولا في النفوس، لكن ذلك لا يعني أن الرماني يهدر قيمة المعاني، أو يفصل بين اللفظ ومعناه، فهما مترابطان أشد الارتباط، ومتلازمان أشد التلازم، وقيمة اللفظ الكبرى فيما تضمنه من المعنى وما يؤديه من دلالة عليه، ونحن إذا تجاوزنا القيمة الصوتية للألفاظ والكلمات، أو(ما عبر عنه الرماني بتعديل النظم حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان) فستبقى قيمته في معناه ودلالته. وقد مر بنا سابقا أن الرماني يجعل الغاية من البيان، إظهار المعنى الخفي والإعراب عما في النفس من خواطر وأفكار. ويستحسن أن يكون هذا الإظهار، وهذا الإيضاح للمعنى، بألفاظ مختارة بعناية لمواقعها اللائقة بها، وأن تكون موافقة للمعاني المعبرة عنها. لأن اللفظ متى وافق معناه وأعرب عنه، ووافق الحال وخرج عن التكلف والاستكراه، حبب إلى النفوس، ومتى كان كريما متخيرا وسليما من الفضول بريئا من التعقيد، حبب إلى النفوس وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره(172). فالسر كله إذن، في القدرة على الصياغة الجميلة، فإذا استطاع المتكلم أن يصوغ المعاني صياغة رائعة، وقدر على أن يبرزها في أسلوب عذب، كان التأليف في أعلى مراتب الحسن والبيان. ومثل هذا البيان في حسن التأليف ورقة التأليف وتمام الإحكام، لا نجده إلا في الأسلوب القرآني، الذي يهتز له ويتأثر به كل من تطرق سمعه آيات هذا الكتاب العزيز، فهو كله في نهاية الحسن والبيان، ولذلك بلغ مرتبة الاعجاز.
وبهذا الباب ينتهي حديث الرماني عن أبواب البلاغة العشرة، التي ارتضاها وجها للإعجاز القرآني، وهي وجوه كلها تعبر عن الخلفية المذهبية للرماني. فإعجاز القرآن يجب أن يلتمس في الجانب التعبيري، أي في نظم ألفاظه وحسن تلاؤمها، وفي التشبيه والاستعارة، وفي حسن البيان، وفي الإيجاز وفي غير ذلك من وسائل التعبير البلاغي، وهي كلها أساليب تدخل في مجال الصنعة والصياغة اللفظية.
الهوامش:
* باحثة وأكاديمية مغربية، حاصلة على الدكتوراه في الإعجاز البياني في القرآن الكريم، من كلية الآداب، ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.
(1) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 75. ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلوإسلام، دار المعارف مصر، الطبعة الرابعة.
(2) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/115. تحقيق عبد السلام محمد هارون، ، دار الجيل بيروت لبنان. 1410هـ/1990م.
(3) الجاحظ، الحيوان: 3/131-132. تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة. 1388هـ/1969م.
(4) شفيع السيد، البحث البلاغي عند العرب، تأصيل وتقييم: 42. شفيع السيد، دار الفكر العربي، القاهرة.
(5) النكت: 76.
(6) النكت: 76.
(7) النكت: 78.
(8) البيان والتبيين: 1/83.
(9) البيان والتبيين: 1/83.
(10) النكت: 76.
(11):النكت: 80.
(12) النكت: 76.
(13) سورة يوسف،الآية: 82.
(14) سورة الزمر،الآية: 70.
(15) النكت: 76-77.
(16) النكت: 77.
(17) سورة الزمر، الآية: 22.
(18) النكت: 76.
(19) سورة البقرة، الآية: 178.
(20) سورة النجم، الآية: 23.
(21) سورة المنافقون، الآية: 4.
(22) سورة البقرة، الآية: 178.
(23) النكت: 77-78.
(24) النكت 77-78.
(25) النكت: 78-79.
(26) ابن الأثير ،المثل السائر: 2/311. تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة نهضة مصر القاهرة، الطبعة الأولى. 1379هـ/1959م.
(27) النكت: 79.
(28) النكت: 80-81.
(29) جابر عصفور، الصورة الفنية: 172. المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الثانية. 1992م.
(30) النكت: 81.
(31) عبد القادر حسين، القرآن والصورة البيانية: 29. عالم الكتب الطبعة الثانية. 1405هـ/1985م.
(32) النكت: 82.
(33) محمد حسين علي الصغير، أصول البيان العربي في ضوء القرآن الكريم،: 78. دار المؤرخ العربي بيروت، الطبعة الأولى. 1420هـ/1999م.
(34) الصورة الفنية: 261-262.
(35) سورة النور،الآية: 38.
(36) النكت: 78.
(37) النكت: 82.
(38) سورة القمر، الآية: 19
(39) النكت: 83.
(40) سورة الجمعة، الآية: 5.
(41) النكت: 85.
(42) سورة الرحمان، الآية: 22.
(43) النكت: 85.
(44) عبد القادر حسين، القرآن والصورة البيانية: 30.
(45) النكت:85
(46) الجرجاني، أسرار البلاغة: 32-33. تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة بيروت لبنان.
(47) النكت: 81.
(48) سورة الفرقان، الآية: 23.
(49) النكت: 86-87.
(50) سورة الحجر، الآية: 94.
(51) النكت : 87.
(52) سورة الأعراف، الآية: 154.
(53) أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 217-222. مكتبة النهضة مصر القاهرة الطبعة الثالثة، 1950م.
(54) الصورة الفنية: 274-275.
(55) النكت: 94.
(56) محمد أبو زهرة القرآن، المعجزة الكبرى: 290. دار الفكر العربي.
(57) سورة البقرة، الآية: 178.
(58) النكت: 72.
(59) البيان والتبيين: 1/67.
(60) النكت: 95-96.
(61) السكاكي، مفتاح العلوم: 416. تحقيق نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان. الطبعة الأولى 1403هـ/ 1983م.
(62) النكت: 96.
(63) النكت: 96.
(64) النكت: 94-95.
(65) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة: 99. دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1402هـ/1982م.
(66) أحمد أبو زيد، التناسب الفني في القرآن: 289 . منشورات كلية الآداب الرباط ، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. 1992م.
(67) النكت: 96.
(68) النكت: 98.
(69) السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن: 1/25. تحقيق أحمد شمس الدين،دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1408هـ/1988م.
(70) سورة القمر، الآية: 1-3.
(71) محمد حسين علي الصغير، الصوت اللغوي في القرآن: 145. دار المؤرخ العربي، بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1420هـ/2000م.
(72) معترك الأقران:1/25.
(73) محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى، القرآن: 95.
(74) النكت: 97.
(75) سورة الطور، الآية: 1-3.
(76) سورة الفاتحة، الآية: 2-3.
(77) النكت: 98.
(78) النكت: 99.
(79) التناسب البياني في القرآن: 369.
(80) سورة نوح، الآية: 5-10.
(81) التناسب البياني في القرآن: 354-355.
(82) النكت: 97.
(83) المثل السائر: 1/210.
(84) النقعاء: ماء أو موضع/ العشراء: عشيرة من فزارة. النكت:97
(85) النكت: 97.
(86) المثل السائر: 1/210.
(87) يحيى العلوي، الطراز: 3/21. دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1400هـ/ 1980م.
(88) سر الفصاحة: 173-174.
(89) النكت : 97.
(90) سورة الفجر، الآية : 1-12.
(91) سورة يس، الآية : 68.
(92) الصوت اللغوي في القرآن،: 147.
(93) النكت: 99.
(94) سورة الروم، الآية: 55.
(95) معترك الأقران في إعجاز القرآن: 1/303.
(96) سورة آل عمران، الآية: 53.
(97) النكت: 99.
(98) سورة البقرة،الآية: 193.
(99) النكت: 99.
(100) سورة التوبة، الآية: 128.
(101) النكت: 100.
(102) سورة البقرة، الآية: 193.
(103) شرح رسالة الرماني، لعالم مجهول: 113 . كأنه(عبد القاهر الجرجاني) تحقيق زكريا سعيد علي، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 1414هـ/1997م.
(104) سورة الشورى، الآية: 37.
(105) الفراء، معاني القرآن: 1/117.
(106) نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: 118. دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى. 1982م.
(107) سورة البقرة، الآية: 193.
(108) ديوان عمرو بن كلثوم: 78.
(109) النكت: 92.
(110) ابن منظور، لسان العرب، مادة (صرف): 11/91. دار صادر بيروت. 1374هـ/1955م.
(111) د. محمد سالم محسين، تصريف الأفعال والأسماء في ضوء أساليب القرآن: 15. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى. 1407هـ/1987م.
(112) ابن عصفور، الممتع في التصريف: 1/27 تحقيق فخر الدين قباوة، الدار العبية للكتاب، الطبعة الخامسة. 1403هـ/1983م
(113) النكت: 102.
(114) سورة آل عمران، الآية: 26.
(115) شرح رسالة الرماني:120.
(116) النكت: 101.
(117) النكت: 101.
(118)النكت: 101.
(119) النكت: 102.
(120) نسبهما عبد المشعال الصعيدي في كتابه بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة:4/139. للشافعي وليس في ديوانه ونسبهما ابن رجب في جامع العلوم والحكم:63 لأبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري، وقد ورد عنده الشطر الأول من البيت الأول بلفظ: (أربع من كلام خير البرية).
(121) صحيح البخاري، باب الحلال، كتاب البيوع: 3/69. صحيح مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة: 11/27.
(122) سنن ابن ماجة ،كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا: 2/1374.
(123) سنن ابن ماجة كاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة: 2/1316. موطأ الإمام مالك، كتاب حسن الخلق: 689.
(124) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي: 1/2. صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 13/ 53.
(125) النكت: 102.
(126) سورة الفاتحة، الآية: 5-7.
(127) شرح رسالة الرماني في إعجاز القرآن: 133.
(128) ديوان أبي نواس: 116. ذات هن: ذات فرج /مقتبل: نضير /حيرية: منسوبة إلى الحيرة بالعراق / لألائها: بريقها.
(129) ديوان الأعشى: 148.
(130) النكت: 103-104.
(131) النكت: 103.
(132) النكت: 103.
(133) النكت: 103.
(134) النكت: 103.
(135) النكت: 80.
(136) النكت: 76.
(137) البحث البلاغي عند العرب: 42.
(138) البديع لابن المعتز: 65. المثل السائر لابن الأثير: 3/178.
(139) قدامة بن جعفر، نقد الشعر: 146. تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
(140) ديوان عنترة: 336.
(141) المثل السائر: 3/191.
(142) انظر مثلا: البلاغة في المثل السائر، حسن إسماعيل عبد الرزاق. دار الطباعة المحمدية القاهرة، الطبعة الأولى. 1407هـ/1987م. والبديع في ضوء أساليب القرآن، للدكتور عبد الفتاح لاشين. مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة. 1986م.
(143) النكت: 104.
(144) سورة طه، الآية: 80.
(145)النكت: 104.
(146) شرح رسالة الرماني: 134-135.
(147) النكت: 107.
(148) سورة طه، الآية: 80.
(149) النكت: 104.
(150) سورة الزمر، الآية: 59.
(151) النكت: 104.
(152) البغدادي، الفرق بين الفرق: 114-115. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة بيروت لبنان.
(153) سورة الفجر، الآية: 24.
(154) النكت: 104-105.
(155) الجويني، الشامل في أصول الدين: 548. مطبعة الإسكندرية. 1969م.
(156) سورة الأعراف، الآية: 39.
(157) النكت: 105.
(158) سورة سبأ، الآية: 24.
(159) سورة الأنعام، الآية: 28.
(160) سورة البقرة، الآية: 164.
(161) سورة ص، الآية: 1.
(162) النكت: 105-106.
(163) ابن منظور، لسان العرب، مادة( بين): 16/214. دار صادر بيروت. 1374هـ/1955م.
(164) البيان والتبيين: 1/75.
(165) البيان والتبيين: 1/76.
(166) النكت: 106.
(167) القزويني، الإيضاح: 326. تعليق وتنقيح محمد عبد المنعم خفاجي، منشورات دار الكتاب اللبناني، الطبعة السادسة. 1405هـ/1985م.
(168) النكت: 106.
(169) النكت: 106.
(170) النكت: 107.
(171) الحيوان: 3/131-132.
(172) البيان والتبيين: 2/8.
إذا كانت قضية إعجاز القرآن قد حظيت من علماء المسلمين بجهود مضنية وأطالت بينهم الجدل والخصومة، وشعبت الآراء والمذاهب، فإن هذا الجدل والخصام، كان يرجع في أهم جوانبه إلى ثنائية اللفظ والمعنى. فقد ربط هؤلاء العلماء ما بين قضية الإعجاز، وهذه الثنائية لكشف أسرار القرآن الكريم، وإبراز سر الإعجاز اللغوي فيه. فاهتم بعضهم بالصياغة اللفظية، وما يتصل بها من فنون البديع وأسرار الفصاحة. ووجه فريق آخر عنايته للمعاني وأحوال التراكيب لإثبات هذا الإعجاز. ويمكن القول إن عناية الرماني بأمر البلاغة، واتخاذها مستندا في تفسير الوجه المعجز من القرآن الكريم، يربطان بحث الرماني بالفكر الاعتزالي بسبب متين، تجلى ذلك في فنون البلاغة العشرة التي اتخذها دليلا على الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وهي أقسام تدخل كلها في مجال الصياغة اللفظية والانسجام الصوتي.
لقد أدرك الرماني بفكره النير وثقافته العميقة المتنوعة، أن إعجاز القرآن كان باللفظ والمعنى، وأن البلاغة القرآنية، وهي أهم وجه للإعجاز، لا يتحقق وجودها بمجرد إفهام المعنى، لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عي. ولا هي مجرد تحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يتحقق اللفظ على المعنى، وهو غث مستكره ونافر متكلف. والمفهوم الذي يرتضيه أن البلاغة "إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ"(1)، وهو تعريف دقيق، يكشف من جهة، الأثر النفسي للبلاغة وقدرتها على إيصال المعنى إلى قلب السامع، وتمكينه في الذهن، ويكشف من جهة ثانية عن الوظيفة الفنية والبيانية للبلاغة، وقدرتها على إبراز المعنى في رداء جميل، وعرضه في صورة بديعة (في أحسن صورة من اللفظ). إن هذا التعريف للبلاغة، يذكرنا من غير شك، بتعريف الجاحظ للكلام البليغ حيث يقول: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة، حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه. فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق، من معناه إلى قلبك"(2). الذي نفهمه من تعريف الجاحظ، أن من أراد البلاغة، فعليه أن يعبر عن المعاني بألفاظ تماثلها في الحسن، وتساويها في القدر والجودة. وقد أشار في اعتراضه على مذهب أبي عمرو الشيباني إلى مقومات الكلام البليغ، فأشار إلى أن الكلام، يحسن بسلامته وسهولته وتخير لفظه وأصالة معناه فقال: "والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك"(3). وهي كلها مقومات، تؤكد مذهب الجاحظ، في إيثار اللفظ والصياغة وإعطاء الاعتبار لهما.
وقد اقتفى الرماني أثر الجاحظ في عنايته بهذه الثنائية، وفي اهتمامه بجمال الصياغة اللفظية، والانسجام الصوتي، وفنون البديع، لكن ذلك لا يعني اطراح المعاني وإهمالها، أو الفصل بين اللفظ ومعناه، فهما مترابطان أشد الترابط، وممتزجان في كل تعبير، أقوى ما يكون الامتزاج، فالرماني كان مدركا وعلى نحو جيد لمفهوم الجاحظ للبلاغة، ولمقولته المشهورة، المعاني مطروحة في الطريق، وإن كان ينتصر للفظ وللصياغة، إلا أنه لا يغض من شأن المعاني، أو يساوي بين ما هو جيد منها، وما هو سوقي مبتذل. إن ما يقصده الجاحظ، أن الشعر والأدب عموما، إنما تنبع قيمته من صياغته الفنية القادرة على تقديم مضمونها في شكل مؤثر جميل، وهذا ما سعى الرماني إلى تحقيقه حين ربط جانبا من قضية الإعجاز، ببلاغة النص القرآني، وطريقته الفذة في تقديم المعنى، وقدرته على التأثير في متلقيه. فلم يكن هم الرماني من التماس إعجاز القرآن من تلك الأقسام البلاغية، الوقوف على ما اشتملت عليه البلاغة القرآنية من محسنات بلاغية وبديعية، منفصلة عن سياقها، وعرضها كزينة لفظية، وكحلية حسية مطلوبة. وإنما كانت عنايته موجهة لاستخراج هذه الفنون، وبيان سر أصالتها في الأسلوب القرآني، والوقوف على أسباب تأثيرها في النفس تأثيرا لا يتهيأ لبشر، وهو ما عبر عنه الرماني عند تعريفه للبلاغة بأنها إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من السمع، فقضية الإعجاز، غير منوطة بألوان البديع وفنون البلاغة، وإنما هي متأتية من طبيعة النص القرآني، بما تحقق له من حسن البيان، وجودة اللفظ وتلاؤمه، واستواء تقاسيمه مع المعاني في النفس.
وحديث الرماني عن ثنائية اللفظ والمعنى متردد في أقسام البلاغة العشرة، فهو من أنصار الصياغة اللفظية حسب ائتلاف المعاني مع الألفاظ، فلكل واحد منهما وظيفة يؤديها، لكن ليس منفردا، بل باعتبار ارتباطه بالآخر، فلا وجود للفظ إلا بالمعنى، ولا وجود للمعنى إلا باللفظ. وقد التزم الرماني بهذا الرأي، ودلل عليه كلما سنحت له فرصة، أثناء شرحه وتحليله لأبواب البلاغة العشرة الدالة على إعجاز القرآن. والرماني إذ يعتقد أن الإعجاز يكمن في خصائص ونكت امتاز بها أسلوب القرآن الكريم عن غيره من كلام البشر، جعل هذا الأسلوب مناط بحث وتحليل، ليقف على جماله ودقة استخدامه للفنون البلاغية ومقارنتها بأساليب بلاغية ماثلة في كلام العرب، الذين لم يكن أحد أفصح ولا أتم بلاغة منهم، ليتسنى له بيان تفوق البلاغة القرآنية، وتميزها عن بلاغة البشر. ولا يخفى على الدارس في مجال الدراسات اللغوية والبلاغية، أن هذه الأقسام البلاغية، كانت معروفة بأسمائها بين النقاد والبلاغيين وغيرهم من أهل اللغة والأدب، والجديد الذي ينبغي تسجيله والتنويه به، إنما يتراءى في أسلوب معالجته لتلك الأقسام البلاغية "فهو مستقل في تفكيره ورأيه ينزع إلى التنظير، ومحاولة ضبط الصور البلاغية التي لها ضبطا منهجيا إلى حد كبير، وذلك بتعريفها، ثم بيان ما يراه من أقسام لها، وتوضيح ذلك بالشواهد البلاغية"(4).
-1- الإيجــاز:
نبدأ بباب الإيجاز، وهو أول وجه بلاغي تحدث عنه الرماني من وجوه الإعجاز البلاغي فعرفه قائلا "الإيجاز تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى"(5)، وهو تعريف يلتزم فيه الرماني بآرائه في ثنائية اللفظ والمعنى، وفي تصوره لمفهوم البلاغة، فلا يكون الكلام بليغا إلا بتحققهما معا، وتلازمهما تلازما تاما. وكذلك لا يكون في الكلام إيجاز حتى تأتي الألفاظ على قدر المعاني لا تزيد عنها ولا تنقص، فإذا كان الكلام يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة، كما يمكن أن يعبر عنه بألفاظ قليلة، فإن الإيجاز هو البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ(6). وليس تقليل الألفاظ على المعاني إيجازا بلاغيا في كل حال، وإنما الشرط أن يتم ذلك من غير إخلال بالمعنى، وإلا كان الكلام تقصيرا. فالإيجاز بلاغة، لأنه لا يظهر فيه إخلال بالمعنى المدلول، بخلاف التقصير فإنه لابد فيه من الإخلال(7). ولذلك كان الإيجاز أرفع مكانة على غيره من الكلام. ولاشك أن الرماني قد تأثر بسلفه - الجاحظ- في تعريفه لهذا الباب وتأكيده على البعد النفسي والبلاغي للإيجاز، حين عرفه قائلا "وأحسن الكلام، ما كان قليله، يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه"(8)، ثم فال في الموضع نفسه "فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، صحيح الطبع عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، ومنزها عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة"(9). من خلال هذين التعريفين، يتضح أن الإيجاز عند الجاحظ هو إصابة معنى، وإدراك غرض بألفاظ عربية سهلة عذبة، خالية من التكلف والتطويل والاختلال، وقد لمسنا هذا المعنى أيضا عند الرماني من خلال تعريفاته لباب الإيجاز، فهوعنده بمثابة "تقليل الكلام، من غير إخلال بالمعنى"(10). وهو "تهذيب الكلام بما يحسن به البيان" وهو أيضا "إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير" كما أنه "تصفية الألفاظ من الكدر وتخليصها من الدرن"(11).
إن هذه التعريفات كلها، تعني أن الإيجاز باعتباره أسلوبا بيانيا، يرجع حسنه وبهاؤه إلى المهارة في التصرف في الألفاظ والمعاني، والقدرة على المقابلة بينهما. والإيجاز عند الرماني على وجهين: إيجاز حذف، وإيجاز قصر، أما إيجاز الحذف فهو "إسقاط كلمة، للاجتزاء عندها بدلالة غيرها من الحال، أو فحوى الكلام"(12). وله أمثلة كثيرة من القرآن الكريم يذكر منها، قوله تعالى ﴿وسئل القرية﴾(13)، كأنه قيل (واسأل أهل القرية)، ومنه حذف أجوبة، كقوله تعالى ﴿وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها﴾(14) كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم، الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير(15)، فالحذف في الآتين أبلغ من الذكر، "لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان"(16).
من الواضح أن الرماني من خلال هذا التعليق الدقيق، كان مدركا لهذا التأثير العجيب الذي تحدثه بلاغة القرآن الكريم، في نفوس وقلوب سامعيه، فتخشع وتنقاد له صاغرة طائعة مستسلمة، كما قال عز من قائل ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾(17).
وأما الإيجاز بالقصر "فهو بنية الكلام، على تقليل اللفظ، وتكثير المعنى، من غير حذف"(18)، ومنه قوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾(19)، ومنه قوله تعالى ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس﴾(20)، ومنه قوله تعالى ﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾(21) فقد نظمت هذه الآيات بألفاظ قليلة، لكنها مستوعبة لمعان كثيرة، تدل على عظمة التعبير القرآني. وليبرهن على ذلك، يعقد مقارنة بين الإيجاز في القرآن، والإيجاز في كلام العرب، وهم أفصح الناس وأبلغهم، لإبراز التفاوت بينهما، فيمثل للقرآن الكريم بقوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾(22)، ويمثل لقول العرب بالحكمة المشهورة (القتل أنفى للقتل)، حيث انتهى إلى أن إيجاز الآية، أبلغ من إيجاز الحكمة العربية من وجوه أربعة، "أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة"(23).
أما الكثرة في الفائدة، ففيه كل ما فيه قولهم (القتل أنفى للقتل) وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكر القصاص، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرحمة لحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير(القتل أنفى للقتل)، قوله r ﴿القصاص حياة﴾ فالأول فيه أربعة عشر حرفا، والثاني عشرة أحرف.
وأما بعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن في قولهم (القتل أنفى للقتل) تكريرا، غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك، فهو مقصر في باب البلاغة عن أعلى طبقة.
وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة، فهو مدرك بالحس، وموجود في اللفظ. فإن الخروج من الفاء إلى اللام، في قول تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة﴾ أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، في قول العرب ( القتل أنفى للقتل) لبعد الهمزة من اللام.
فباجتماع هذه الأمور جميعا، صار الإيجاز في الآية الكريمة أبلغ وأحسن(24).وفي ثنايا حديث الرماني عن الإيجاز، تعرض للإطناب والتطويل. فالإطناب هو "تفصيل المعنى، وما يتعلق به في المواضع التي يحسن فيها ذكر التفصيل"(25)، أما التطويل فهو: "التعبير عن المعنى بلفظ زائد، يفهم ذلك المعنى بدونه، فإذا حذفت تلك الزيادة، بقي المعنى المعبر عنه على حاله لم يتغير منه شيء."(26) وهذا بخلاف الإطناب، فإنه إذا حذفت منه تلك الزيادة المؤكدة للمعنى، تغير ذلك المعنى وذهبت الفائدة. ولذلك عد الرماني الإطناب بلاغة، والتطويل عيا "لأنه تكلف فيه الكثير مما يكفي منه القليل، فكان كالسالك طريقا بعيدا جهلا منه بالطريق القريب. وأما الإطناب فليس كذلك، لأنه كمن سلك طريقا بعيدا لما فيه من النزهة الكثيرة والفوائد العظيمة"(27).
وهكذا نلاحظ أن الرماني في بحثه لباب الإيجاز، قد حرص على بيان تفوق البلاغة القرآنية على غيرها من الكلام الجاري على ألسنة العرب، فهو كلام خال من كل تقصير وتطويل، مشحون بالإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، من غير إخلال باللفظ أو بالمعنى، وقد كانت للرماني لمحات جيدة في هذا الباب، استفاد منها كل من جاء بعده من البلاغيين، وخاصة تلك المقارنة اللماحة التي أجراها بين الآية الكريمة والحكمة العربية، فقد نقل هذه المقارنة كل من أبي هلال العسكري (ت.395هـ) وأبي سنان الخفاجي (ت.466هـ).
-2- الـتشبــيه:
بعد أن انتهي الرماني من الحديث عن باب الإيجاز، انتقل للحديث عن وجه آخر من وجوه البلاغة القرآنية، وهو باب التشبيه، ليثبت أن تشبيهات القرآن الكريم، تختلف عن تشبيهات العرب، بكثرة المعاني المستنبطة منها، وبسلاستها في النطق والسمع، ويعرف الرماني التشبيه بقوله "التشبيه هو العقد على أحد الشيئين، يسد مسد الآخر في حس أو عقل، ولا يخلو التشبيه من أن يكون في القول أو في الأنفس، كتشبيه ماء بماء، أو ذهب بذهب، أو في العقل، كتشبيه قوة زيد، بقوة عمرو، فالقوة لا تشاهد ولكنها تعلم"(28)، وهو تعريف جامع مانع كما يقول أهل المنطق، إذ أبان فيه وجوه الالتقاء بين المشبه والمشبه به في الحس أو العقل. واضح من هذا التعريف أن العلاقة التي تربط بين المشبه والمشبه بهن علاقة مقارنة أساسا، وليست علاقة اتحاد أو تفاعل، بحيث يصبح "هذا الطرف ذاك الآخر، ولو على سبيل الإيهام، أو تتفاعل دلالات الأطراف مكونة دلالة جديدة، هي محصلة لهذا التفاعل كما يحدث في الاستعارة. إن التشبيه هو محض مقارنة بين طرفين متمايزين لاشتراك بينهما في الصفة نفسها، أو في مقتضى وحكم لها"(29).
والتشبيه عند الرماني، من الأبواب التي يتفاضل فيها الشعراء، وتظهر فيها بلاغة البلغاء، وهو على طبقات. فأعلاه طبقة التشبيه الذي ورد في القرآن الكريم، وما كان دونه فهو الذي ورد في كلام الناس. ويعطينا الرماني قاعدة عامة، تعرف بها بلاغة التشبيه في يسر وسهولة. فالتشبيه البليغ، يتحقق عنده في "إخراج الأغمض، إلى الأظهر بأداة التشبيه، مع حسن التأليف"(30). واشتراط الرماني في التشبيه البليغ حسن التأليف، وانسجام العبارة واتساقها مع بقية أجزائها، رأي في غاية الوجاهة، لأن التشبيه لا تظهر قيمته الحقيقية، من حسن أو قبح، إذا كان مبتورا عن بقية العناصر الأخرى المؤلفة للعبارة. فللفظ دور في صياغة العبارة، وللمعاني مكانة في نظم العبارة. ولا يظهر حسن تأليف العبارة وبهائها، إلا إذا كان المعنى مكشوفا، واللفظ مناسبا، وكان كل لفظ من ألفاظ العبارة يخدم الآخر، ويضفي عليه مزيدا من الحسن "ورب لفظ واحد متنافر، لا انسجام بينه وبين غيره من الألفاظ، يطيح بالعبارة كلها، ويلقي بها من حالق، وإن كانت بقية عباراتها تزخر بالتشبيهات"(31).
لقد أحس الرماني بقضية ائتلاف اللفظ والمعنى، وجعلها سببا في حسن التأليف وبلاغة التشبيه، وأدرك أن هذا التآلف ناتج عن "حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الدلالة"(32). فالتشبيه محاولة بلاغية جادة، لصقل الشكل وتطوير اللفظ، ومهمته تقريب المعنى إلى الذهن بتجسيده حيا، ومن ثم فهو ينقل اللفظ من صورة إلى صورة أخرى. فإن أراد صورة متناهية في الحسن والجمال "شبه الشيء بما هو أرجح منه حسنا، وإن أراد صورة متداعية في القبح والتفاهة شبه الشيء بما هو أردأ منه صفة"(33). وعلى هذا الأساس، فإن الرماني يرى أن جانبا كبيرا من بلاغة التشبيه، يرتد إلى إخراج الأغمض إلى الأظهر. ومعنى إخراج الأغمض إلى الأظهر، قدرة التشبيه على تصوير المعنى وتقديمه تقديما محسوسا، وذلك عن طريق ربطه المعنوي المجرد بالحسي العيني، أو ربط الصور الحسية بأخرى أشد منها تمكنا في الصفات الحسية، وهذا ما يجعله قريبا من مجال الإدراك الإنساني، ويجعله أكثر قدرة على التأثير والتأثر(34). والتشبيه البليغ عند الرماني يقع على وجوه أربعة هي:
1- الوجه الأول: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، كقوله تعالى ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا﴾(35) فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعدم الفاقة(36). ولا ينسى الرماني الإشارة إلى ملاحظة هامة، وهي دقة اختيار القرآن الكريم لألفاظه في التعبير مع المعنى المراد بصورة أقوى وأبلغ فيقول "ولو قال يحسبه الرائي ماء، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدر، لكان بليغا وأبلغ منه لفظ القرآن، لأن الظمآن أشد حرصا عليه وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في النار"(37).
2- الوجه الثاني: إخراج ما لم تجر به عادة، إلى ما قد جرت به، كقوله تعالى: ﴿إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر﴾(38)، فهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة، إلى ما قد جرت به، وقد اجتمعا في قلع الريح لهما وإهلاكها إياهما، وفي ذلك الآية الدالة على عظيم القدرة والتخويف من تعجيل العقوبة(39).
3- الوجه الثالث: إخراج ما لا يعلم بالبديهة، إلى ما يعلم، كقوله تعالى: ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا﴾(40) فهذا تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة، إلى ما يعلم بها، وقد اجتمعا في الجهل بما حملا، وفي ذلك العيب لطريقة من ضيع العلم بالاتكال، على حفظ الرواية من غير دراية(41).
4- الوجه الرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة، إلى ماله قوة فيها، كقوله تعالى: ﴿وله الجواري المنشآت في البحر كالاعلام﴾(42). فهذا تشبيه قد أخرج ما لا قوة له، في الصفة إلى ما له قوة فيها، وقد اجتمعا في العظم، إلا أن الجبال أعظم، وفي ذلك، العبرة من جهة القدرة فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها، وما في ذلك من الانتفاع بها وقطع الأقطار البعيدة فيها(43). وبهذه النظرة العميقة للتشبيه، ولقيمته البلاغية، يكون الرماني قد فتح بابا جديدا في التشبيه، ومهد طريق البحث البلاغي أمام غيره من الباحثين. وأهم ما يميز بحثه في هذا الباب، غزارة استشهاده بآي الذكر الحكيم، فهو يسير على منهج محدد لإبراز إعجاز القرآن الكريم، وهو المنهج الذي "ينبغي أن يسير عليه الباحثون في كل زمان، وهو شيء يضاف إلى قيمة الرماني العلمية، فيرجح كفته على غيره من العلماء، الذين لم يلتزموا بهذا المنهج في سرد أدلة الإعجاز، كعبد القاهر الجرجاني، الذي حشد كتابه بشواهد من الشعر، حتى ضاعت بينها آيات القرآن، وهي التي عقد الكتاب لأجلها ولإبراز ما فيها من إعجاز"(44).
-3- الاستعــارة:
كان من الضروري أن يواجه الرماني الاستعارة، ويتأمل قدرتها على التأثير في من يتلقى النص القرآني، فهي فن من فنون البلاغة، وجزء من أجزائها العشرة لديه، التي جلى فيها القرآن كثيرا من مواطن إعجازه. ويعرفها قائلا "الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له، في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة"(45)، ومعنى هذا التعريف، أن الكلمة في الاستعارة قد وضعت بإزاء معنى جديد أطلقت عليه، وهو غير المعنى الموضوع لها في اللغة قصد إبانة المعنى وإيضاحه. ويقصد الرماني بإبانة المعنى، استحداث معنى جديد في اللفظ، وجعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة، وهو الأمر الذي عبر عنه بقوله "ومن الفضيلة الجامعة فيها، أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد، حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة موموقة، ومن خصائصها التي تذكر بها وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة درر"(46).
وقد تناول الرماني الخصائص الفنية للاستعارة، كمقدمة لدراسة هذا الفن القولي في القرآن، حيث قال: "وكل استعارة حسنة فهي توجب بلاغة بيان لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة لكانت أولى به، ولم تجز الاستعارة، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة"(47). فالرماني ينص صراحة على أن أسلوب الاستعارة أقوى وأبلغ من أسلوب الحقيقة، ولو كانت الاستعارة تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه الحقيقة، لكان التعبير بالحقيقة أجدى، والشاهد على أن للاستعمال الاستعاري من الفائدة والموقع الحسن ما ليس للاستعمال الحقيقي، ما جاء في القرآن الكريم من الاستعارة على جهة البلاغة، وما تحدثه من تأثير يتداعى إلى القلوب والنفوس عند سماع التعبير بالألفاظ التي دخلتها الاستعارة. فقوله تعالى ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾(48) أبلغ وأحسن مما قصد له من قوله لو قال (عمدنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا). فالاستعارة في لفظ (قدمنا)، قد حققت في الآية دلالة لا يمكن استيعابها في لفظ عمدنا لو استبدلت بها، ولبقيت الصورة المرادة غير ماثلة للعيان كما هو الحال مع الآية. وبهذا الفهم العميق مضى الرماني يحلل الآية الكريمة تحليلا رائعا، موضحا حقيقتها ليبين فضل الاستعارة ووجه بلاغتها، وسر الجمال في التعبير بلفظ (قدمنا) بدلا من (عمدنا). فكل ذلك يجعل القارئ متمثلا للسر البلاغي في التعبير بالاستعارة، يقول الرماني "حقيقة قدمنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه، لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه عاملهم من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال. والمعنى الذي يجمعهما العدل، لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لما بينا. وأما هباء منثورا، فبيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة، إلى ما تقع عليه حاسة"(49). ومثله أيضا قوله تعالى: ﴿فاصدع بما تومر﴾(50) ففي الآية من بلاغة التعبير ودقة المعنى والتفنن في التصوير، ما لا نجده في الاستعمال الحقيقي، فلو قلنا(بلغ ما تومر به) لوجدنا فعل (بلغ)، يضيق عن الإحاطة بالمراد من الآية "لأن الصدع بالأمر لابد له من تأثير كتأثير صدع الزجاج، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير فيصير بمنزلة ما لم يقع. والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ"(51).
فالاستعارة في الآية، هي التي كشفت أصالة ما يريد القرآن التعبير عنه، وكشفت عن إيحائية جديدة في الآية، لا يحس بها السامع في الاستعمال الحقيقي، بحيث يصبح لفظ الاستعارة متميزا لا يسد مسده لفظ آخر، ولا يشاكله تعبير مقارب، وبذلك بلغت الاستعارة في القرآن الكريم مرتبة الإعجاز. ويبدو من هذه الأمثلة التي تقدم بها الرماني، أن بلاغة الاستعارة القرآنية وإعجازها يكمن في قدرتها على تجسيم المعنوي، وتقديمه في صورة حسية ينفعل معه قلب وعقل القارئ والسامع. يقول الدكتور أحمد بدوي متحدثا عن تأثير الاستعارة القرآنية "وإذا أنت مضيت إلى الألفاظ المستعارة رأيتها من هذا النوع الموحي، لأنها أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوي ملموسا محسا...فقد يجسم القرآن المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس، وذلك بعض ما يعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية، ومن أروع هذا التجسيم، قوله سبحانه وتعالى ﴿ولما سكت عن موسى الغضب﴾(52)، ألا تحس بالغضب هنا كأنه إنسان يدفع موسى ويحثه على الانفعال والثورة، ثم سكت وكف عن دفع موسى وتحريضه"(53). ويبدو أن الرماني قد استغل ثقافته الفلسفية الواسعة في تحليلاته للاستعارة القرآنية، فنجده يكثر من ضرب الأمثلة وبيان موضع الاستعارة وأصلها وحقيقتها، ثم يشرح السر في أبلغية الاستعارة على الحقيقة، وقدرتها على التأثير في من يتلقى النص القرآني. ولا غرابة في ذلك، فالرماني لم يكن منفصلا عن الأوساط الفلسفية في عصره، بل كان متأثرا بها ومشاركا فيها. فهو من ناحية "معتزلي والمعتزلي رجل ينبغي أن يكون ما يحسنه من كلام الدين، في وزن ما يحسنه من كلام الفلسفة، وهو من ناحية أخرى منطقي، كانت له طريقة خاصة انفرد بها في دراسة المنطق"(54).
-4- التــلاؤم:
نمضي إلى وجه ثالث من وجوه الإعجاز البلاغي، وهو باب التلاؤم، ويعرفه الرماني بقوله "التلاؤم نقيض التنافر، والتلاؤم تعديل الحروف في التأليف"(55)، فتلاؤم الحروف حسب الرماني شرط من شروط البلاغة، فمن أراد أن يكون كلامه بليغا، فعليه أن يختار من الألفاظ أخفها على اللسان، وأعذبها في الأسماع. ومعنى خفة اللفظ، أن يتركب من حروف خفيفة متقاربة في النطق، ليس فيها تباعد شديد في المخارج، بحيث يصعب الانتقال من مخرج إلى مخرج، ولا التقارب الشديد الذي يجعل بعض الحروف يندغم في بعض، "وإنك بلا ريب تجد ألفاظ القرآن الكريم وجمله بعيدة عن هذا كل البعد، بل إنه المثل الأعلى في ذلك"(56). وقد شرح الرماني ذلك في مقارنة عقدها في باب الإيجاز بين قوله تعالى ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب﴾(57)، والحكمة العربية (القتل أنفى للقتل). فذكر أن الخروج من الفاء إلى اللام في قوله تعالى ﴿في القصاص﴾، أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة في (القتل أنفى)، لبعد الهمزة عن اللام. وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء في ﴿القصاص حياة﴾، أعدل من الخروج من الألف إلى اللام في(أنفى للقتل)(58).
وهذا الرأي يحيلنا على مذهب الجاحظ في التلاؤم، أجود الشعر عنده ما كان متلاحم الأجزاء سهل المخارج. ورديء الشعر ما كان مستكرها، لا يقع بعض ألفاظه ملائما لبعض، يكد على اللسان عند النطق به. يقول الجاحظ: "وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقه ملسا، ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة، تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة ورطبة متواتية، سلسة النظام، خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد"(59).
فالتلاؤم إذن، وصف لابد منه لكي يكون الكلام خفيفا على اللسان، مقبولا في الأذن، موافقا لحركات النفس، مطابقا لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر، وهناك أسباب أخرى يراها الرماني مؤدية إلى التلاؤم عائدة إلى الموهبة والفطنة والإحساس، إلى جانب قرب مخارج الحروف وبعدها حيث يقول: "وبعض الناس أشد إحساسا بذلك وفطنة له من بعض، كما أن بعضهم أشد إحساسا بتمييز الموزون في الشعر من المكسور، واختلاف الناس في ذلك من جهة الطباع، كاختلافهم في الصور والأخلاق"(60). وهذا سبق من الرماني إذ أدرك أن إعجاز القرآن، إنما يدرك بالذوق الذي امتن الله به على عباده، كما امتن عليهم بالصور والأخلاق، فالذوق قدرة فطرية في النفس البشرية، تميز مواطن الجمال في الكلام من مواطن القبح، وهي مغروسة في الإنسان تنمو وتتطور معه وتختلف باختلاف النفوس وأحوالها وهيئاتها. وقد وجدنا من العلماء من اتجه نحو الذوق للكشف عن الإعجاز القرآني، كالسكاكي الذي يعتبر الإعجاز أمرا عجيبا، "يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة. ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين. نعم للبلاغة وجوه متلثمة، ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلى عليك، أما نفس وجه الإعجاز فلا"(61). وفائدة التلاؤم عند الرماني ليست صوتية أو لفظية فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى المعنى فتجعل له قبولا في العقل وارتياحا في النفس، وفي ذلك يقول "والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل المعنى له في النفس، لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة"(62). ومعنى كلام الرماني، إسناد الفائدة إلى اللفظ والمعنى على السواء، فحسن النظم وتعديل الكلام، لا يتأتى إلا بالعناية بالألفاظ والمعاني، وذلك بوضع الألفاظ في مواضعها، فتأتي اللفظة بجانب أختها منسجمة متلاحمة، الشيء الذي يزيد المعنى وضوحا وكشفا وبهاء وحسنا. إلا أن الرماني كسلفه الجاحظ، يرى البلاغة الحقيقية في حسن الصياغة وجمال التصوير، يتجلى ذلك واضحا من خلال المثال الذي ضربه الجاحظ للتلاؤم، فمثله كمثل قراءة الكتاب في أحسن ما يكون من الخط والحرف. وقراءته في أقبح ما يكون من الحرف والخط، فذلك متفاوت في الصورة، وإن كانت المعاني واحدة(63). فالسر كله في القدرة على الصياغة الجميلة، فإذا استطاع المتكلم أن يصوغ المعاني صياغة رائعة، وقدر على أن يبرزها في أسلوب عذب خالص من الشوائب كان الكلام بليغا متلائما.
والكلام عند الرماني على طبقات، متنافر ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا(64). فالمتلائم في الطبقة العليا، أسلوب القرآن الكريم. والمتلائم في الطبقة الوسطى، كلام البلغاء من العرب. أما المتنافر فهو الكلام الذي يستثقله اللسان وتمجه الآذان. وقد رفض ابن سنان الخفاجي هذا التقسيم، فالكلام عنده، إما متنافر أو متلائم ولا واسطة. وتأليف القرآن وفصيح كلام العرب من المتلائم. يقول ابن سنان "وأما قوله (يعني الرماني) إن القرآن من المتلائم في الطبقة العليا، وغيره في الطبقة الوسطى، وهو يعني بذلك جميع كلام العرب، فليس الأمر على ذلك، ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية، ومتى رجع الإنسان إلى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب، ما يضاهي القرآن في تأليفه. ولعل أبا الحسن يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة"(65). وهذا الاختلاف بين الرماني وابن سنان راجع إلى موقف كل منهما من إعجاز القرآن وفصاحته. فرغم وحدة المذهب، فإن الرماني يرى أن فصاحة القرآن، خرقت عادة العرب وخرجت عن مقدورهم، وجرت مجرى قلب العصا حية، ومن ثم كان القرآن في الطبقة العليا من البلاغة والتلاؤم. أما ابن سنان الخفاجي فيرى أن فصاحة القرآن من جنس فصاحة العرب، وفي مقدورهم لو لا صرف الله لهم عن معارضته. ولذلك فلا فرق بين فصاحة القرآن وبين الفصيح من كلام الناس. وهذا الكلام ظاهر الفساد، والصحيح ما قاله الرماني من أن القرآن في الطبقة العليا من التلاؤم، لأننا لا نجد في مختار كلام الناس من الأثر النفسي والعقلي والسمعي، ما نجده عندما نقرأ آيات من القرآن الكريم. فللقرآن الكريم روعة تأخذ القلوب وتهز النفوس، والذي لا يختلف فيه اثنان، أن جانبا من تلك الروعة يرجع إلى "جمال الإيقاع، ومعلوم أن ذلك الجمال الإيقاعي ينبع من التناسب بين العناصر الصوتية واللفظية، أي من الأصوات اللغوية والحركات والمقاطع الصوتية"(66).
وفي ختام هذا الوجه البلاغي نقول، إن التلاؤم اللفظي الذي انفرد به القرآن الكريم أكسب أسلوبه قوة وتماسكا عن طريق انسياب النغم وانسجام اللفظ في الآيات، فجاء القرآن في الطبقة العليا من التلاؤم. وهذا التلاؤم مع حسنه وبلوغ القرآن الكريم فيه الطبقة العليا، إلا أنه لا يقوم وحده صرحا للإعجاز، ما لم تعاضده أمور أخرى. وقد أحس الرماني بذلك فقال بعدما بين فائدة التلاؤم: "فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان في صحة البرهان في أعلى الطبقات، ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام"(67). فبامتزاج التلاؤم اللفظي، وحسن البيان وصحة البرهان، ينتج القول الجميل البليغ، حتى يصل إلى مرتبة الإعجاز.
-5 - الفــواصل:
لقد عد الرماني الفواصل وجها من وجوه بلاغة القرآن الكريم وإعجازه، لما تضفيه على أسلوبه من بلاغة وحسن بيان، وما تحققه من جو موسيقي مؤثر في النفس وفي الطباع، وما توجبه من حسن إفهام للمعاني. ولذلك فاق نظم القرآن غيره من النظوم، وبلغ مرتبة الإعجاز، يقول الرماني "وفواصل القرآن بلاغة وحكم، لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل عليها"(68).
والفاصلة مصطلح خاص بالقرآن، وهي تقابل السجع في النثر، والقوافي في الشعر، وهي كلمة آخر الآية، تقع عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام(69). مثل (القمر) و(مستمر) و(مستقر) في قوله تعالى ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرفوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر﴾(70). وإنما سميت فاصلة، ولم تسم قافية أو سجعا، تكريما للقرآن الكريم بأن يقاس على منظوم كلام العرب، من سجع أو نثر، فالله تعالى "لما سلب عنه اسم الشعر، وجب سلب القافية عنه أيضا لأنها منه، وخاصة به في الاصطلاح، وكما يمنع استعمال القافية فيه، يمنع استعمال الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه"(71). فالقرآن مميز حتى في التسمية عن كلام العرب، وإن وافق صور كلام العرب، وجرى على سنته في الفصاحة والبيان. فليس القرآن نثرا، وإن استعمل جميع أساليب النثر عند العرب، وليس القرآن شعرا، وإن اشتمل على جميع بحور الشعر العربي(72).
والذي لاشك فيه. أن الجمال الصوتي والتناسق الفني والإيقاع الموسيقي، هو أول شيء أحسته الأذن العربية يوم نزل القرآن الكريم وتلاه الرسول r، وذلك لما وجدوا فيه من إيقاع جميل، وفواصل متقاربة في الوزن، تشبه الوزن والقافية في الشعر، فتشوقت الآذان لسماعه، وانقادت النفوس مستسلمة لتعاليمه، وشهدت الألسن بما له من سحر التأثير، وروعة البيان، وكمال الإعجاز. وقد لاحظنا من قبل، أن التعبير القرآني قد أولى الإيقاع الصوتي عناية خاصة، فلا يمكن لأية أذن لها أدنى قدر من الإحساس بالجمال الموسيقي، إلا أن تدرك جمال القرآن الذي تسمعه يرتل ترتيلا، وأن هذا الإيقاع الصوتي تابع لقصر الفواصل وطولها، كما هو تابع لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة. فكل شيء في القرآن "معجز من حيث قوة الموسيقى، في حروفه وتآخيها في كلماته، وتلاقي الكلمات في عباراته، ونظمه المحكم في رنينه، وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات، وكون كل كلمة لفقا مع أختها، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته وتوحد غاياته ومعانيه، تجدها مؤتلفة مع ألفاظه، وكأن المعاني جاءت مؤاخية للألفاظ، وكأن الألفاظ قطعت لها وسويت على حجمها"(73).
ويعرف الرماني الفواصل بأنها "حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني"(74). وهي على وجهين: متجانسة ومتقاربة، فالمتجانسة كقوله تعالى ﴿والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور﴾(75). أما المتقاربة فكقوله تعالى ﴿الرحمان الرحيم، ملك يوم الدين﴾(76) فالميم والنون حرفان متقاربان، وإنما يحسن المجيء بحروف متقاربة في الفواصل، "لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع، ولما فيه من البلاغة وحسن العبارة"(77). ويلاحظ من تعريف الرماني للفاصلة، أنه يعتبرها فضيلة من فضائل القرآن، ووجها من وجوه إعجازه، جمعت بين بلاغة المعنى ومحاسن الصياغة، فهي طريق إلى إفهام المعاني، التي يحتاج إليها في أحسن صياغة وأحسن نظم. وقد عبر عن هذا الرأي في مكان آخر بقوله: "والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع وتحسينها الكلام بالتشاكل وإبداؤها في الآي بالنظائر"(78).
ومعلوم أن حسن صياغة الألفاظ، له أثر كبير في إمتاع النفوس، وإطرابها وتهيئتها لقبول تأثير المعاني التي تتضمنها، ولا يبلغ اللفظ مداه في الإبلاغ والتأثير، إلا بصحة معناه ووضوحه وبهائه. وهذا هو رأي الرماني، فلا تحسن الفواصل لمجردها، ولا تصل إلى درجة البلاغة والإعجاز، إلا إذا أدت إلى إفهام المعاني مع ما يقتضيه ذلك من حسن النظم والتئامه. فأما أن تهمل المعاني، ويهتم بتحسين اللفظ وحده، فليس من البلاغة في شيء. يقول الدكتور أحمد أبو زيد "من أهم الخصائص التي تميز القرآن على كل كلام بليغ، أنه يجمع في كل معنى يطرقه بين الوفاء بحق المعنى وحق الصياغة، وتناسب الفواصل، وأنه استمر على ذلك من أوله إلى آخره، ولم يخل بحق أي من العنصرين ولو مرة واحدة. إن العبارات القرآنية آيات محكمة، فصلت من لدن حكيم خبير، وحين يتدبر البليغ تركيبها من ناحية الصياغة اللفظية، يجد أن حق الصياغة يقتضي التركيب الذي نزلت به، وحين يتدبره من ناحية المعنى وما تقتضيه بلاغته يجد أيضا أن حق المعنى يقتضي ذلك التركيب"(79). وما يؤكد أن فواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة لما تؤدي إليه من إفهام المعاني في أحسن صياغة وأحسن نظم، كثرة وقوع حروف المد واللين في الفواصل، بالقياس إلى غيرها من الحروف، وذلك لأنها تحمل لحنا إيقاعيا لا يوجد في الحروف الأخرى، وتحمل من الحلاوة والإطراب، ما يحدث الانسجام في الإيقاع والترابط في السياق. ولتتضح هذه الأبعاد الصوتية لحروف المد واللين، يحسن بنا أن نسوق هنا مثالا من القرآن الكريم، إذ بالمثال يتضح المقال، يقول الله تعالى: ﴿قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا﴾(80). فنحن حينما نتأمل هذه الآيات نلاحظ أن الفاصلة التي انتهت بها هذه الآيات، تتألف من مقطع يتكون من صوت متحرك هو الراء، ومن صوتين ممدودين هما الألف التي قبل الراء والألف التي بعدها، ولهذين المدين وظيفتين، وظيفة إيقاعية ووظيفة معنوية بلاغية "أما الأولى فيؤديانها بالسماح للصوت بالارتفاع والامتداد في نهاية كل آية بمقدار متناسب. وأما الثانية فيؤديانها بالإسهام في الإيحاء بصورة الجهد الضخم الذي أمضاه نوح u في دعوة قومه، وقد أشار القرآن في مكان آخر إلى أنه u لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما"(81).
وقد يتوهم البعض أن ختام فواصل القرآن المتوافقة هي من السجع، فالتحقيق يقتضي الفصل بين الأمرين، فالفواصل من وجوه بلاغة القرآن وإعجازه، والأسجاع عيب ذلك، أن الفواصل تتبع المعاني، والسجع تتبعه المعاني، يقول الرماني: "الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة، إذ كان الغرض الذي هو حكمة، إنما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليها ماسة"(82). والسجع من المحسنات البديعية التي يعمد إليها المتكلم حين يريد أن يرتفع بكلامه عن منزلة النثر العادي، إلى نثر فني، يتوخى فيه مزيدا من العناية بالصياغة اللفظية، وجمال الأداء، وحده "تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد"(83). وقد يكون دافع الرماني إلى رفض السجع وذمه، رغبته في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي، عن الكهنة وغيرهم، الذي يقصد به اتحاد الحروف، من غير نظر إلى المعنى، ومن غير أن تكون للمعاني في ذاتها قيمة، كما جاء عن بعض الكهان "والأرض والسماء والغراب، الواقعة بنقعاء، لقد نفر المجد إلى العشراء"(84). ومنه ما يحكى عن مسيلمة "يا ضفدع نقي، كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا النهر تفارقين"(85). وقد يكون هناك سبب آخر دفع الرماني إلى رفض السجع وذمه، وهو كثرة شيوع استخدامه في القرن الرابع الهجري، والإفراط في تكلفه والغلو في التأنق اللفظي، الأمر الذي ولد ردود فعل ومواقف سلبية من السجع، حتى لدى أولئك الذين بدا عليهم التأثر بأسلوب السجع والميل إليه. يقول ابن الأثي:ر "وقد رأيت جماعة من متخلفي هذه الصناعة، يجعلون همهم مقصورا على الألفاظ التي لا حاصل وراءها ولا كبير معنى تحتها، وإذا أتى بعضهم بلفظ مسجوع على أي وجه كان من الغثاثة والبرودة، يعتقد أنه قد أتى بأمر عظيم، ولا يشك في أنه صار كاتبا مفلقا، وإذا نظر إلى كتاب زماننا وجدوا كذلك، فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار، ولا يعلم أنه كجواد يمشي تحت حمار"(86).
ويحق لنا أن نتساءل، أكل السجع كسجع الكهان مذموم متكلف يرهق الألفاظ والمعاني؟ ألا يوجد سجع يزيد المعاني قوة، وتكون فيه المعاني متبوعة وليست تابعة؟ فرفض السجع على الإطلاق رأي غير مستقيم، فيه كثير من التعسف، فالسجع لا عيب فيه مادام يأتي طوعا سهلا تابعا للمعاني، وهو من صميم البلاغة، لأن المقصود به، إنما هو اعتدال المقاطع وجريه على أسلوب متفق "لأن الاعتدال مقصد من مقاصد العقلاء يميل إليه الطبع وتتشوق إليه النفس"(87). لذلك لم يوافق علماء كثيرون الرماني في موقفه من السجع، مثل (أبي هلال العسكري) و(ابن سنان الخفاجي) الذي رد على الرماني وغيره ممن ينفون السجع عن القرآن بقوله "وأما قول الرماني أن السجع عيب، والفواصل بلاغة على الإطلاق فغلط. لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعا للمعنى، وكأنه غير مقصود، فذلك بلاغة والفواصل مثله. وإن كان يريد بالسجع، ما تقع المعاني تابعة لها وهو مقصود متكلف، فذلك عيب والفواصل مثله"(88). يلاحظ من هذا النص أن (ابن سنان) يعيب ما ينافي البلاغة سواء أكان سجعا أو فواصل، ولا مانع من أن يوصف القرآن بأن فيه سجع، ولكنه سجع في أعلى مراتب الكلام بحيث لا يمكن أن يجاريه أحد، ولا يصل إلى علوه أحد من الخلق. وكيف يجاري كلام مسيلمة "يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا النهر تفارقين"(89) كلام الله تعالى إذ يقول ﴿والفجر وليال عشر، والشفع والوتر والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الاوتاد، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد﴾(90). فهذه الآيات حسب ابن سنان من سجع القرآن، وهو سجع في أعلى مراتب البلاغة والإعجاز، ترى فيه الفقرات متعادلة الأجزاء، رقيقة النغم موجزة اللفظ وافية بالمعنى، فيها وزن وموسيقى ورنين، وهذا ما يقال له السجع.
فابن سنان ومن لف لفه من النقاد والبلاغيين، إذ يفسر السجع بأنه الاتحاد في حروف المقاطع، من غير أن يكون المعنى تابعا للفظ، يحكم بأن القرآن الكريم فيه سجع فوق قدرة البشر أن يأتوا بمثله، أما الرماني وغيره من العلماء ممن نفوا السجع عن القرآن، فيرون أن السجع كالشعر، يكون المعنى فيه تابعا للقافية والأوزان. فكما نزه الله تعالى كتابه الكريم عن الشعر، فقال عز من قائل: ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين﴾ (91). فهو كذلك منزه عن السجع، وإن اتحدت حروف مقاطعه. ومهما يكن من أمر، فالقرآن الكريم قد نزل بلغة العرب، وعلى عرفهم وعاداتهم في الكلام، وقد وردت فيه الفواصل بإزاء الأسجاع، وأكثر البلاغيين يوردون شواهد للسجع من القرآن الكريم، ويقرون صراحة بوجوده فيه. غير أن ما يجب التنبيه إليه أن السجع عند العرب له مهمة لفظية في غالب الأحيان، حيث يؤتى به لتحقيق التناسق بين أواخر الكلمات في الفقرات وتلاؤمها. أما مهمة الفاصلة القرآنية فهي مهمة لفظية معنوية في وقت واحد، فلا تفريط في الألفاظ على سبيل المعاني، ولا اشتطاط بالمعاني من أجل الألفاظ، "لذلك ارتفع مستوى الفاصلة في القرآن بلاغيا ودلاليا، عن مستوى السجع فنيا، وإن وافقه صوتيا"(92).
-6- التجــانس:
التجانس هو الباب السادس من أبواب البلاغة التي يتحقق بها إعجاز القرآن، ويعرفه الرماني بقوله: "هو بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل اللغة"(93). ويقصد الرماني بالتجانس، الجناس أو التجنيس، وهو تشابه لفظين في النطق مع اختلاف المعنى، كما في قوله تعالى، في وصف حال الكفار يوم القيامة ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة﴾(94). فلفظ (ساعة) الأولى، قصد به يوم القيامة، و قصد بالثاني، المدة الزمانية، فلو قيل (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير وقت قصير) لفات على السامع السر في بلاغة الجناس، ولفقدت الآية بلاغتها وحسن نظمها وسبكها. فالجناس من المحاسن اللفظية والألوان البديعية، التي لها تأثير بليغ في النفوس، ووقع في القلوب، بما تحدثه من انسجام في النغم، وتقارب في الأصوات، نتيجة للمشابهة اللفظية، ذلك أن "مناسبة الألفاظ تجدد ميلا وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوق إليه"(95).
والتجانس عند الرماني على وجهين: مزاوجة ومناسبة. أما المزاوجة، فأن تجعل اللفظة الثانية المتجانسة للأولى زوجا لها، من غير مناسبة بينهما، وتقع في الجزاء، كما في قوله تعالى، ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾(96). أي جازاهم على مكرهم، فاستعير للجزاء على المكر اسم المكر، لتحقيق الدلالة على أن وبال المكر، راجع إليهم ومختص بهم(97). ومنه قوله تعالى ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾(98). أي جازوه بما يستحق طريق العدل، إلا أنه استعير للثاني لفظ الاعتداء، لتأكيد الدلالة على المساواة في المقدار، فجاء على مزاوجة الكلام لحسن البيان(99). وأما المناسبة فتدور في فنون المعاني التي ترجع إلى أصل واحد، من مثل قوله تعالى ﴿ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم﴾(100). فجونس بالانصراف عن الذكر، صرف القلب عن الخير، والأصل فيه واحد، وهو الذهاب عن الشيء، أما هم فذهبوا عن الذكر، وأما قلوبهم فذهب عنها الذكر(101).
والجناس ككل محسن بديعي، يهدف إلى إحداث تأثيرين: أحدهما صوتي، بما يحدثه من جمال موسيقي تطرب له الأذن وتهتز له القلوب، والآخر معنوي، ناتج من سرعة الاستدعاء اللفظي للمعنى المراد التعبير عنه، وذلك ما عناه الرماني في باب التجانس، حين عده وجها من وجوه إعجاز القرآن. فالصورة اللفظية الحسية للجناس مع جمالها، لا يصح أن تصرفنا ولا تحجب عن ذهننا ما استتر من لطائف المعاني ودقائق الأغراض، و يظهر لنا هذا الأمر بوضوح، من خلال التقسيمين اللذين ارتضاهما الرماني للتجانس في قوله تعالى ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾(102). فإن الجناس في الآية قد حقق جمالا موسيقيا، وزاد الكلام حلاوة ورونقا، بما أضافاه عليها من التلوين اللفظي والصوتي. وربما يعتقد البعض، أن الرماني قد أدخل في التجنيس ما ليس منه، لأنه جانس بين لفظ اعتدى واعتدوا، دون اختلاف المعنى بينهما، إذ حد التجنيس: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، وفي الآية اتفاق اللفظ والمعنى. لكن الأمر خلاف ذلك، فالمراد بالاعتداء في اللفظة الأولى، هو المعنى الحقيقي للكلمة. والاعتداء معناه في أصل اللغة وفيما عليه العرف، مجاوزة الحد المحدود، ونقض الحرمة المحترمة(103). والمراد بالاعتداء في اللفظة الثانية، إنما هو جزاء الاعتداء الذي هو القصاص. يفسر الفراء هذه الآية قائلا "فالعدوان من المشركين في اللفظ ظلم في المعنى، والعدوان الذي أباحه الله وأمر به المسلمين، إنما هو القصاص، فلا يكون القصاص ظلما وإن كان لفظه واحدا. ومثله قول الله تبارك وتعالى ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾(104). وليست من الله على مثل معناها من المسيء لأنها جزاء"(105). فالنظم القرآني إذن، جانس بين اللفظتين، ليحقق المعنيين معا. القصاص من جهة، وتوكيد العدالة مع المساواة في المقدار من جهة ثانية، وبذلك تكون الآية الكريمة، قد جمعت بين ما هو لفظي صوتي، وما هو معنوي، وإعجازها يرجع إلى دلالة اللفظ وأدائه لمعناه، ولاشيء فيها للفظ بذاته، من حيث هو حروف وأصوات.
وباعتبار أن فكرة الإعجاز –كما يقول نصر حامد أبو زيد– تسلم بداهة بمبدإ التباين بين كلام الله وكلام البشر، من حيث الأسلوب والصياغة(106)، فإن الرماني يعود مرة أخرى ليعقد مقارنة بين التجانس في القرآن، والتجانس في كلام العرب، وهم أفصح الناس وأبلغهم، ليبرز التفاوت بين الكلامين، وليثبت بلاغة القرآن الكريم وإعجازه في هذا الباب، فيمثل للقرآن الكريم بقوله تعالى ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾(107). ويمثل لكلام العرب بقول (عمرو بن كلثوم).
ألا لا يجهـلن أحـد عـلينا *** فنجهل فوق جـهل الجاهـلينا(108).
حيث انتهى إلى أن بيت (عمرو بن كلثوم ) وإن كان بليغا، لكنه دون بلاغة القرآن الكريم "لأنه لا يؤذن بالعدل كما أذنت بلاغة القرآن، وإنما فيها الإيذان براجع الوبال فقط، والاستعارة للثاني أولى من الاستعارة للأول، لأن الثاني يحتذى فيه على مثال الأول في الاستحقاق، فالأول بمنزلة الأصل، والثاني بمنزلة الفرع الذي يحتذى فيه على الأصل، فلذلك نقصت منزلة قولهم: الجزاء بالجزاء عن الاستعارة بمزاوجة الكلام في القرآن"(109).
-7- التصــريف:
ننتقل إلى القسم السابع من أقسام البلاغة العشرة، وهو باب التصريف ومعناه في اللغة التغيير، ومنه تصريف الرياح، وهو صرفها من جهة إلى جهة، وتحويلها من حال إلى حال(110). وبمعنى أدق، التصريف هو تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة، لمعان مقصودة لا تحصل إلا به، أي بهذا التحويل(111). وأهمية التصريف كبيرة، فهو يدل على شرف اللغة العربية، وفضلها على جميع اللغات، فالكلمة تنقلب إلى ضروب من التقليب، مع الدلالة على معنى واحد، يقول (ابن عصفور) في كتابه (الممتع في التصريف): "فالذي يبين شرفه، احتياج جميع المشتغلين باللغة العربية، من نحوي، ولغوي إليه، أيما حاجة، لأنه ميزان العربية، ألا ترى أنه قد يؤخذ جزء كبير من اللغة بالقياس، ولا يوصل إلى ذلك، إلا من طريق التصريف، نحو قولهم: كل اسم في أوله ميم زائدة مما يعمل به وينقل، فهو مكسور الأول نحو(مطرقة، مروحة)، إلا ما استثني من ذلك. فهذا لا يعرفه إلا من يعلم أن(الميم) زائدة، ولا يعلم ذلك إلا من جهة التصريف"(112). ولاشك أن ثقافة الرماني الواسعة في النحو واللغة، جعلته يهتم بهذا الباب، ويعده وجها من وجوه الإعجاز البلاغي، ويكمن إعجاز القرآن في هذا الباب، في قدرته على أن يأتي "في المعنى الواحد، بالدلالات المختلفة، فيما هو من البلاغة في أعلى طبقة"(113). وذلك كما جاء في قوله تعالى: ﴿قل اللهم مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء﴾(114). فالإعجاز في هذه الآية لا يعود إلى ما اشتملت عليه من صيغ مختلفة لضروب من المعاني لفعل (ملك)، وإنما إعجاز الآية يكمن في روعة تأليفها، وبراعة تركيبها، وحسن نظمها لتلك الصيغ. أما أن نقول إن موضع الإعجاز في الآية، يرجع إلى التصريف منفردا عن سياقه فذلك محال، لأن جعل الكلمة على صيغ مختلفة، لضروب من المعاني، ليست من عمل صاحب النظم، "بل هي موجودة في أصل اللغة قبل التأليف والنظم، وإنما يعد في أقسام البلاغة ما يكون من عمل صاحب النظم"(115).
والتصريف عند الرماني على ضربين: تصريف لفظ، وتصريف معنى. أما تصريف اللفظ فهو: "تصريفه في الدلالات المختلفة، وهي عقدها به على جهة التعاقب"(116)، وأراد بعقدها به على جهة التعاقب: صياغته في اشتقاقات مختلفة تناسبه مناسبة قريبة، وترجع إليه في الاشتقاق، وذلك كتصريف (الملك) في معاني الصفات "فصرف في معنى مالك وملك وذي الملكوت والمليك وفي معنى التمليك والتمالك والإملاك والتملك والمملوك"(117). فهذه الألفاظ وإن انتسبت جميعها إلى لفظ (الملك)، إلا أنها ليست هي به على الحقيقة، فيكون كل معنى منها قائما مقامه، لأنها لو كانت كذلك، لصلح استعمالها في موضع واحد، وليس يصلح ذلك، وإنما يستعمل كل واحد منها في موضعه الذي هو أخص به. وفائدة هذا الضرب من التصريف في دلالته على إعجاز القرآن ما فيه من "بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه"(118). وهذا النوع من التصريف جاء في القرآن الكريم في معرض حديثه عن قصص الأنبياء عليهم السلام، وقد بلغ القرآن الكريم فيه مرتبة الإعجاز، لأن تكرير المعنى الواحد، بعبارات مختلفة دون إخلال بالمعنى، أو اللفظ، أو بلاغة الخطاب، أمر لا يقدر عليه البشر. فقصة موسى u ذكرت في أكثر من سورة في القرآن، فقد ذكرت في سورة الأعراف، وطه، والشعراء، والقصص، والنمل، وغيرها من السور. ونجد ما يعاد ذكره من هذه القصة في كل السور غير مختلف ولا متفاوت، بل هو في نهاية البلاغة وغاية البراعة. ولذلك عد الرماني هذا النوع من التصريف، وجها من وجوه الإعجاز البلاغي، لأن تكرير القصة الواحدة بعبارات مختلفة، يدل على اقتدار المكرر لها على التصرف في أنواع البلاغة، من غير نقصان عن أعلى مرتبة، ويدل أيضا على معنى تلك القصة دلالة بعد دلالة، لتمكين العبرة والموعظة والحث على الاعتبار(119).
-8- التضــمين:
التضمين من المحسنات اللفظية التي يكتسب بها الكلام حلاوة وقوة، ويقصد به أن يضمن الشاعر شعره، والناثر نثره، كلاما آخر لغيره قصدا، للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود . وذلك كما روي عن الإمام الشافعي قوله:
عمدة الـخير عـندنا كلمات *** أربـع قالـهن خير الـبرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما *** ليس يعنيك واعـملن بـنيه(120).
تكشف هذه الأبيات، عن مهارة الشافعي في إحكامه الصلة بين كلامه، وكلام رسول الله r، حيث ضمن أبياته حديث رسول الله r ÿالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهاتÿ(121). وحديثه u ÿازهد في الدنيا يحبك اللهÿ(122). وقوله u ÿ من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيهÿ(123). وقوله u ÿإنما الأعمال بالنياتÿ(124). والتضمين في مفهوم الرماني، هو تضمين الكلام عدة معان دون ذكرها، أو التلفظ بها، حيث يقول: "تضمين الكلام هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه"(125)، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾(126). لقد تضمنت هذه الآية معاني زائدة على المعاني المعبر عنها بالألفاظ الداخلة في نظم الآية، فمدلول ظاهر الآية، طلب الهداية من رب العالمين إلى الطريق المستقيم، طريق غير المغضوب عليهم من اليهود، ولا الضالين من النصارى. وقد تضمنت الآية إلى جانب هذا المعنى الظاهر، معنى الوعد والوعيد، والتبشير والتحذير، دون التلفظ بها، لأن قوله U ﴿صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فيه إشارة لطيفة، إلى أن "من سلك الصراط المستقيم فهو ممن قد أنعم الله عليه، ومن أنعم عليه، سعد في الدنيا والآخرة، ومن سلك غير الصراط المستقيم فقد ضل واستحق من الله جل وتعالى الغضب"(127).
فالتضمين عند الرماني، ليس هو تضمين الكلام كلاما آخر لغيره، قصدا للاستعانة به على تأكيد المعنى المقصود، كما جاء في أبيات الإمام الشافعي السالفة الذكر. وكما جاء في أبيات أبي نواس في مخاطبته بعض خلطائه على مجلس الشراب:
فـقلت هل لك في الصهباء تأخذها *** من كف ذات هن فالعيش مـقتبل
حـيرية كشعاع الشمس صـافية *** يـحيط بالكأس من لألائها شـعل
فـقال هـات واستمعنا على طرب *** ودع هـريرة إن الركب مـرتحل(128).
حيث ضمن البيت الأخير مطلع قصيدة الأعشى:
ودع هـريرة إن الركب مـرتحل *** وهل تطيق وداعا أيـها الـرجل(129).
وإنما التضمين عنده: هو تضمين معان زائدة دون التلفظ بها كما سبق وأوضحنا في الآية السابقة، وهو أمر لا يقدر عليه سوى البلغاء من الناس. أما القرآن الكريم فلا تخلو آية منه من تضمين ومن دلالات، يدركها المتأمل لكتاب الله ولآياته، من غير أن يكون في اللفظ عبارة عنها بتسمية أو صفة، ومن ذلك قوله تعالى ﴿بسم الله الرحمان الرحيم﴾ فهذه الآية تضمنت "التعليم لاستفتاح الأمور على التبرك به والتعظيم لله بذكره، وأنه أدب من آداب الدين، وشعار المسلمين، وأنه إقرار بالعبودية واعتراف بالنعمة التي هي أجل نعمة، وأنه ملجأ الخائف ومعتمد المستنجح"(130). والتضمين عند الرماني على وجهين:
1- تضمين توجبه البنية: فالصفة بمعلوم توجب أنه لابد من عالم، وكذلك مكرم، توجب أنه لابد من مكرم(131).
2- تضمين يوجبه معنى العبارة وهو نوعان:
الأول تضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به، مثل الصفة بقاتل يدل على مقتول، من حيث لا يصح معه معنى قاتل ولا مقتول، فهو على دلالة التضمين(132).
الثاني تضمين يوجبه معنى العبارة من جهة جريان العادة، كقولهم (الكر بستين)، المعنى فيه( بستين دينارا). فهذا مما حذف، وضمن الكلام معناه لجريان العادة به(133). والتضمين عند الرماني كله إيجاز استغني به عن التفصيل(134)، إذ كان اللفظ فيه دالا دلالة الإخبار على معان كثيرة، فاقتصر المتكلم على اللفظة الدالة على تلك المعاني ولم يفصلها، وهو التعريف نفسه الذي ارتضاه الرماني للإيجار إذ يقول: "والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير"(135). والإيجاز هو "تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى"(136).
فإذا كان الرماني – كما رأينا سابقا في باب الإيجاز- قد أولى عناية كبيرة لكل من اللفظ والمعنى، فإنه أولى لهذه الثنائية في هذا الباب القدر نفسه من العناية والأهمية. يظهر ذلك من تعريفه للتضمين، بأنه تضمين الكلام عدة معان من غير ذكر له باسم أو صفة، فهذه العبارة على إيجازها، تعبر عن رأي الرماني أدق تعبير، فالتضمين وإن كان من المحسنات اللفظية التي يزدان بها الكلام وتكسبه بهاء وخلابة، فهو في الوقت ذاته مظهر من مظاهر التأنق في تجلية المعاني وحسن تأديتها، ولا نجد مثل هذا التضمين إلا في أسلوب القرآن الكريم، فهو الأسلوب البليغ المعجز. ولعل أهم ما يثير القارئ لرسالة الرماني في هذا الباب، والباب الذي قبله، طريقة الرماني في الكلام والتحليل، فهي طريقة فلسفية منطقية كلامية، تظهر قدرته الفائقة على الجدال والمناظرة، كما رأينا في الوجوه الستة الأخرى التي ارتضاها الرماني للإعجاز القرآني. وربما كان الطابع الكلامي للرماني، وراء ذلك التعقيد الذي تميز به أسلوبه في تحليل وجوه الإعجاز، مما يحوج قارئ رسالته في كثير من الأحيان، إلى بعض الجهد لفهم المراد من كلامه. يقول الدكتور شفيع السيد: "فالتصريف والتضمين كما أوضحهما، ليسا من البلاغة في شيء، وإنما هما أقرب إلى ميدان علم الكلام الذي كان هو واحدا من فرسانه، وليس هناك أدنى صلة بين (التضمين) عنده، وظاهرة (التضمين) المعروفة في البديع، لهذا لم يعتد أحد من البلاغيين بهذين الوجهين، ولا نكاد نرى لهما أثرا فيما نعرف من كتب التراث البلاغي"(137).
-9- المبالغــة:
وقد سمى بعض علماء البلاغة هذا الوجه بالإفراط(138). وسماه آخرون (كقدامة ابن جعفر) (بالمبالغة). ويعرفها بقوله "هي أن يذكر الشاعر حالا من الأحوال في شعر لو وقف عليها لأجزأه ذلك في الغرض الذي قصده، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال، ما يكون أبلغ في ما قصد"(139). ومما ورد من ذلك في الشعر قول عنترة:
أنا المنية حين تشتجر الـقنا *** والطعن مني سابق الآجـال(140).
فعنترة يدعي أن شجاعته وقوته بلغت حدا بعيدا، حتى صار كل من يدخل معه في معركة، إلا وقد سيق إلى أجله قبل أن يحين أجله. وقد وقف النقاد والبلاغيون من البلاغة مواقف متباينة، فمنهم من رأى أن أحسن الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه، ومنهم من رأى أن المبالغة من عيوب الكلام، إذ لا يلجأ المتكلم إلى المبالغة إلا عند عجزه عن أن يخترع معنى مبتكرا(141). وليس غرضنا مناقشة هذه الآراء، لأن كلامنا موجه بالأساس للحديث عن هذا الوجه البلاغي عند الرماني، فلا نرى ضرورة في أن نتوسع في القول عن هذا الاختلاف، فهناك كتب كثيرة تعرضت لهذا الموضوع بالبحث والدراسة(142). وإنما غرضنا أن نبين أسلوب معالجة الرماني لهذا الوجه البلاغي، فالرماني كما أشرنا سابقا، مستقل في تفكيره وتصوره لكثير من الوجوه البلاغية، وهذا ما نلمسه بشكل واضح في معالجته لهذا الوجه الذي يعرفه بقوله:"المبالغة هي الدلالة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانة"(143). فهذا التعريف يتفق مع تعريف (قدامة) الآنف الذكر، لكن الجديد الذي أضافه الرماني إلى تعريفات غيره من البلاغيين للمبالغة هي قوله: "على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانة". فالمبالغة تتم من خلال التغيير، الذي يطرأ على أبنية الأسماء في أصل اللغة مثل، (فعولن أو فعال أو مفعل) كما في قوله تعالى: ﴿وإني لغفار لمن تاب﴾(144). معدول عن غافر للمبالغة(145). وقد رفض هذا التعريف شارح رسالة الرماني لأن الأبنية المعدولة عن أصولها، موجودة في أصل اللغة، كالأسماء المفردة الموجودة في أصل اللغة، وما هو موجود في أصل اللغة ليس منسوبا إلى بلاغة البليغ، وإنما يعد من البلاغة ما يكون من البلغاء في نظمهم الذي ينظمونه من مبالغة في الصفة، أو إطناب أو إيجاز أو غير ذلك من العمل مما هو منسوب لهم، فأما من "استعمل من الأسماء ما بني على فعول أو فعال، فإنما سبيله في استعماله كسبيل من استعمل سائر الأسماء المختلفة الأبنية. ألا ترى أن قول القائل من العامة (فلان كذاب أو كذوب، أو فلان غدار) ليس يسمى بهذا القدر من الكلام بليغا، كما أنه إذا قيل (فلان مقيم وفلان شاخص) لم يكن هذا القدر من كلامه معدودا في باب البلاغة، لأن العلم بمواضع هذه الأسماء التي تستعمل فيها، هو من شرط العلم باللغة، وليس هو من شرط البلاغة. وإنما يكون المبالغة معدودا في باب البلاغة، إذا سلك المتكلم مسلكا من النظم، يزيد المعنى الذي يريد تقريره بيانا ووضوحا، حتى يبلغه غايته أو يجاوزها به"(146).
وهذا الكلام صحيح لا غبار عليه، لكننا نعتقد أن الرماني لم يكن غافلا عن هذا الأمر، فهو كغيره من علماء الإسلام يؤمن بأن إعجاز القرآن، يكمن في عجيب نظمه، وبديع تأليفه، وروائع معانيه، وأن هذا النظم مخالف لما عداه من نظوم البشر. وإذا كان الرماني قد أغفل الحديث عن هذا النظم في رسالته، فذلك لا يعني أنه ينظر إلى الوجه البلاغي للقرآن منعزلا عن سياقه، كأن يكون موضع التشبيه مثلا أو الاستعارة أو المبالغة بمفرده معجزا. إنه لا يفصل بين نظام التأليف القرآني، وفنون البلاغة وصور البديع، أعلى مراتب البيان ما جمع "أسباب الحسن في العبارة، من تعديل النظم حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان، وتتقبله النفس تقبل البرد"(147). ومن ثم فالرماني لا يمتدح أسلوب المبالغة، لما يحتويه من أسماء وأبنية موجودة في أصل اللغة، وإنما تدخل المبالغة عنده في باب الإعجاز عندما يعمل التعبير معنى مؤلفا من حقائق مترابطة يسند بعضها بعضا، أو بتعبير آخر عندما تتفاعل الألفاظ مع المعاني، وينتج عنها جمال التعبير وصدق التصوير. ولا نجد مثل هذه المبالغة من حيث الدقة في اختيار الألفاظ، وانسجامها في سياقاتها المختلفة، إلا في أسلوب القرآن الكريم، لذلك صارت المبالغة وجها من وجوه الإعجاز القرآني. والمبالغة عند الرماني على وجوه:
الوجه الأول: المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية لمعنى المبالغة، وهي على أبنية كثيرة منها: فعلان كرحمان، عدل عن (راحم) للمبالغة، وفعال كغفار وتواب وعلام، مثل قوله تعالى ﴿وإني لغفار لمن تاب﴾(148). فغفار معدول عن غافر للمبالغة. ومن ذلك فعول كغفور وشكور وودود، ومنه مفعل كمطعن، ومفعال كمنحار ومطعام(149).
الوجه الثاني: المبالغة بالصيغة العامة في موضع الخاصة، كقوله تعالى ﴿خالق كل شيء﴾(150). أو كقول القائل: (أتاني الناس). ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم، وبالغ في العبارة عنهم(151). واستشهاد الرماني لهذا الوجه بقوله تعالى ﴿خالق كل شيء﴾ فيه نظر، لأن الحق سبحانه وتعالى خالق حقيقة كل شيء، فلا مبالغة في الآية أبدا. إلا أن الرماني الذي ينطلق في تحليله من عقيدته الاعتزالية، لا يجد حرجا في إدخال هذه الآية في باب المبالغة. ومعنى ذلك، أنه يستثني أن يكون الله خالق كل شيء، وهو بذلك يريد أن ينفي خلق الله لأفعال العباد، حتى لا يتوهم أن يكون في ذلك نوع من الجبر والقهر ينافي عدله سبحانه، فالإنسان في المذهب الاعتزالي هو الذي يخلق أفعاله بمقتضى حريته واختياره. والذي حملهم على ذلك هو إيمانهم بعدالة الله وتنزهه عن الظلم، فما كان الله سبحانه ليعاقب إنسانا على عمل وجهه إليه وأعانه عليه، لأن من أعان فاعلا على فعله، ثم عاقبه عليه كان جائرا. والعدل من صفات الله تعالى، والظلم والجور منفيان عنه(152). فإثبات حرية الإنسان واختياره لأفعاله، هي من وجهة نظر المعتزلة من مستلزمات العدل الإلهي، إذ لا يعاقب إنسان ولا يثاب، إلا بمقتضى حرية واختيار يباشر بهما أفعاله، وهذا هو مناط التكليف، فعقيدة الرماني الاعتزالية هي التي دفعته للاستشهاد بهذه الآية، لأن لفظ (كل) في الآية لا يقصد عمومها، لأن أفعال الناس مستثناة بالدليل العقلي من هذا العموم.
الوجه الثالث: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، كقول القائل (جاء الملك) إذا جاء جيش عظيم له، ومنه قوله تعالى ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾(153)، فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئا له على المبالغة في الكلام(154). فالواضح أن الرماني في هذا الوجه أيضا، يلتزم بأصول ومبادئ المعتزلة في التنزيه الإلهي وعدم مماثلته للأشياء والأجسام، فكل شيء يتنافى مع وحدانيته تعالى فنده المعتزلة بالأدلة العقلية، ورفضوا أن يأخذوا الآيات التي تحمل معاني التشبيه والتجسيم على علاتها، وحملوها على المجاز وأولوها تأويلات تتفق مع وحدانية الله وتنزهه عن التشبيه. فليس ثمة مجيء لله تعالى حقيقي، وإنما المراد مجيء الدلائل الدالة على قدرته تعالى، أما علماء السنة فيقدرون محذوفا، والتقدير عندهم (وجاء أمر ربك )(155).
الوجه الرابع: إخراج الممكن إلى الممتنع للمبالغة نحو قوله تعالى: ﴿ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾(156). وهذا إنما هو على البعيد ومعناه، لا يدخل الجمل في سم الخياط ولا يدخل هؤلاء الجنة .
الوجه الخامس: إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدول والمظاهرة في الحجاج(157). كقوله تعال: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾(158). أي أن أحد الفريقين لعلى هدى أو في ضلال مبين، ولابد من أن يكون أحد الادعاءين صحيح يؤدي إلى الفوز والنجاة، والآخر فاسد يؤدي إلى الهلاك، فاثبتوا على ما ادعيتم، فستكشف لكم العاقبة صحة ما ادعيتم أو فساده، فهذا من أبلغ الزجر وأعظم التخويف بالعاقبة.
الوجه السادس: حذف الأجوبة للمبالغة كقوله تعالى:﴿ولو ترى إذ وقفوا على النار﴾(159). وقوله U: ﴿ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب﴾(160). وقوله U: ﴿ص والقرآن ذي الذكر﴾(161). كأنه قيل، لجاء الحق أو لعظم الأمر أو لجاء بالصدق، كل ذلك يذهب إليه الوهم لما فيه من التفخيم، والحذف أبلغ من الذكر، لأن الذكر يقتصر على وجه، والحذف يذهب فيه الوهم إلى كل وجه من وجوه التعظيم لما تضمنه من التفخيم(162).
وقبل أن ننتقل إلى آخر قسم من أقسام البلاغة العشرة، نقول: إن دراسة الرماني لباب المبالغة اتسم بالدقة والفهم العميق، والالتزام بالمنهج الفني البلاغي البعيد عن الجدل الكلامي، والتعقيد الفلسفي، كما رأينا في باب التصريف والتضمين، وكذا الالتزام بمبادئ المعتزلة في العدل والتوحيد، وهذا ما يؤكد لنا كثافة الدورالمذهبي في تشكيل الخطاب البلاغي عند الرماني وغيره من علماء الإسلام.
-10- البيــان:
نمضي إلى القسم العاشر والأخير من أقسام البلاغة العشرة، الذي يظهر بها إعجاز القرآن البلاغي وهو البيان. والبيان في اللغة: ما يبين به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيء بيانا: اتضح، والبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب، وأصله الكشف والظهور(163). فتسمية الكلام بيانا ناجم عن إظهار المعنى المقصود والكشف عنه وإفهامه، فالمعاني خفية ومحجوبة مكنونة، لا يظهرها إلا الإخبار عنها "وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور، كانت أنفع وأنجع، والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله U يمدحه ويدعو إليه ويحث عليه. بذلك نطق القرآن وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف العجم"(164). هذا ما ارتآه الجاحظ في تعريفه للبيان، فهو اسم جامع لكل شيء كشف القناع عن المعنى، سواء تم ذلك بالقول المنطوق أو المكتوب أو كان بالإشارة أو الهيئة التي يبدو عليها الشيء، والتي يطلق عليها دلالة الحال، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع(165). وقد اقتفى الرماني أثر الجاحظ وحذا حذوه في فهمه وتعريفه للبيان، فهو عنده بمعنى الوضوح والانكشاف والإظهار للمعنى الغامض، والإعراب عما في النفس من خواطر وأفكار، بل لا تختلف دلالات هذا البيان عنده، عن تلك الدلالات التي يتحقق بها البيان عند الجاحظ. يقول الرماني: "البيان هو الإحضار لما يظهر به تميز الشيء من غيره في الإدراك، والبيان على أربعة أقسام، كلام وحال وإشارة وعلامة"(166). ويقصد الرماني بالإحضار كل ما يظهر المعنى المقصود ويوصله إلى الذهن، سواء كان كلاما أو رسما أو رمزا أو إشارة.
فالرماني إذن حين استخدم كلمة (البيان) عنوانا للباب العاشر من أبواب البلاغة العشرة التي يعرف بها إعجاز القرآن، لم يكن يقصد معناه الاصطلاحي الذي تعارف عليه البلاغيون في ما بعد باسم (علم البيان) ثالث علوم البلاغة، إلى جانب (علم المعاني) و(البديع) الذي يعرفه القزويني قائلا "علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه"(167). وإنما كان يقصد المعنى العام المطلق لكلمة (بيان) المشتمل على معايير القول وموازين الكلام. ومما يدل على ما ذهبنا إليه أنه جعل هذا البيان قسما من أقسام البلاغة العشرة، وجعل التشبيه والاستعارة اللذين هما جزءان من علم البيان قسيمين معادلين له وليس فرعين عنه.
والكلام عند الرماني على وجهين: كلام يظهر به تميز الشيء عن غيره فهو بيان، وكلام لا يظهر به تميز الشيء، فليس ببيان، كالكلام المخلط والمحال الذي لا يفهم له معنى(168). فالغاية من البيان، الإبانة وتمييز الشيء عن غيره، أو كما قال الجاحظ هي الفهم والإفهام، لكن ذلك لا يقتضي أن يكون كل كلام أبان عن المعنى وأفهمه يسمى بليغا، من قبل أنه قد يكون الكلام على عي وفساد ويبين عن المعنى المقصود "كقول السوادي وقد سئل عن أتان معه فقيل له: ما تصنع بها، فقال أحبلها وتولد لي"(169). فهذا كلام قبيح فاسد، وإن كان قد فهم به المعنى وأبان عن المقصود، فحسن الإفهام شرط في البيان، لا مجرد الإفهام مع عي وفساد، لأنه لو اقتصر تعريف البيان على ما يظهر به تميز الشيء من غيره لكان كلام ( السوادي) بيانا، لأنه قد عبر عن غرضه في إمساك (الأتان) وهو الحبل الذي يطلبه، والولاد الذي ينتظره. والبيان الحسن هو ما جمع أسباب البلاغة وأبان عن المعاني بأحسن الألفاظ وأقربها تناولا، وأخفها مؤونة على القائل والسامع. يقول الرماني "وحسن البيان في الكلام على مراتب: فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة، من تعديل النظم حتى يحسن في السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبل البرد، وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقه من المرتبة"(170). ويفهم من كلام الرماني أنه يشترط تحقق أربعة أمور لعلو مرتبة البيان وهي: حسن الوقع في السمع، والخفة على اللسان، وحسن التقبل في النفس، وأن يكون المقال على قدر المقام. وهذا الرأي يدل على مذهب كان الجاحظ أول من نادى به في تاريخ النقد والبلاغة، وهو مذهب الصنعة والافتنان في الصياغة، فقيمة البيان أو الأدب في رأي الجاحظ ترجع إلى إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وإلى صحة الطبع وجودة السبك، لأن الأدب أو الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير(171). والرماني من أنصار هذا المذهب، فالشأن كل الشأن للصياغة والانسجام الصوتي، لذلك نجده يشترط في حسن التأليف، أن يكون اللفظ خفيفا على اللسان، عذبا في الأسماع، بريئا من التعقيد، مشاكلا للمعنى، موافقا لمقتضى الحال، مقبولا في النفوس، لكن ذلك لا يعني أن الرماني يهدر قيمة المعاني، أو يفصل بين اللفظ ومعناه، فهما مترابطان أشد الارتباط، ومتلازمان أشد التلازم، وقيمة اللفظ الكبرى فيما تضمنه من المعنى وما يؤديه من دلالة عليه، ونحن إذا تجاوزنا القيمة الصوتية للألفاظ والكلمات، أو(ما عبر عنه الرماني بتعديل النظم حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان) فستبقى قيمته في معناه ودلالته. وقد مر بنا سابقا أن الرماني يجعل الغاية من البيان، إظهار المعنى الخفي والإعراب عما في النفس من خواطر وأفكار. ويستحسن أن يكون هذا الإظهار، وهذا الإيضاح للمعنى، بألفاظ مختارة بعناية لمواقعها اللائقة بها، وأن تكون موافقة للمعاني المعبرة عنها. لأن اللفظ متى وافق معناه وأعرب عنه، ووافق الحال وخرج عن التكلف والاستكراه، حبب إلى النفوس، ومتى كان كريما متخيرا وسليما من الفضول بريئا من التعقيد، حبب إلى النفوس وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره(172). فالسر كله إذن، في القدرة على الصياغة الجميلة، فإذا استطاع المتكلم أن يصوغ المعاني صياغة رائعة، وقدر على أن يبرزها في أسلوب عذب، كان التأليف في أعلى مراتب الحسن والبيان. ومثل هذا البيان في حسن التأليف ورقة التأليف وتمام الإحكام، لا نجده إلا في الأسلوب القرآني، الذي يهتز له ويتأثر به كل من تطرق سمعه آيات هذا الكتاب العزيز، فهو كله في نهاية الحسن والبيان، ولذلك بلغ مرتبة الاعجاز.
وبهذا الباب ينتهي حديث الرماني عن أبواب البلاغة العشرة، التي ارتضاها وجها للإعجاز القرآني، وهي وجوه كلها تعبر عن الخلفية المذهبية للرماني. فإعجاز القرآن يجب أن يلتمس في الجانب التعبيري، أي في نظم ألفاظه وحسن تلاؤمها، وفي التشبيه والاستعارة، وفي حسن البيان، وفي الإيجاز وفي غير ذلك من وسائل التعبير البلاغي، وهي كلها أساليب تدخل في مجال الصنعة والصياغة اللفظية.
الهوامش:
* باحثة وأكاديمية مغربية، حاصلة على الدكتوراه في الإعجاز البياني في القرآن الكريم، من كلية الآداب، ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.
(1) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 75. ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلوإسلام، دار المعارف مصر، الطبعة الرابعة.
(2) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/115. تحقيق عبد السلام محمد هارون، ، دار الجيل بيروت لبنان. 1410هـ/1990م.
(3) الجاحظ، الحيوان: 3/131-132. تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة. 1388هـ/1969م.
(4) شفيع السيد، البحث البلاغي عند العرب، تأصيل وتقييم: 42. شفيع السيد، دار الفكر العربي، القاهرة.
(5) النكت: 76.
(6) النكت: 76.
(7) النكت: 78.
(8) البيان والتبيين: 1/83.
(9) البيان والتبيين: 1/83.
(10) النكت: 76.
(11):النكت: 80.
(12) النكت: 76.
(13) سورة يوسف،الآية: 82.
(14) سورة الزمر،الآية: 70.
(15) النكت: 76-77.
(16) النكت: 77.
(17) سورة الزمر، الآية: 22.
(18) النكت: 76.
(19) سورة البقرة، الآية: 178.
(20) سورة النجم، الآية: 23.
(21) سورة المنافقون، الآية: 4.
(22) سورة البقرة، الآية: 178.
(23) النكت: 77-78.
(24) النكت 77-78.
(25) النكت: 78-79.
(26) ابن الأثير ،المثل السائر: 2/311. تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة نهضة مصر القاهرة، الطبعة الأولى. 1379هـ/1959م.
(27) النكت: 79.
(28) النكت: 80-81.
(29) جابر عصفور، الصورة الفنية: 172. المركز الثقافي العربي بيروت، الطبعة الثانية. 1992م.
(30) النكت: 81.
(31) عبد القادر حسين، القرآن والصورة البيانية: 29. عالم الكتب الطبعة الثانية. 1405هـ/1985م.
(32) النكت: 82.
(33) محمد حسين علي الصغير، أصول البيان العربي في ضوء القرآن الكريم،: 78. دار المؤرخ العربي بيروت، الطبعة الأولى. 1420هـ/1999م.
(34) الصورة الفنية: 261-262.
(35) سورة النور،الآية: 38.
(36) النكت: 78.
(37) النكت: 82.
(38) سورة القمر، الآية: 19
(39) النكت: 83.
(40) سورة الجمعة، الآية: 5.
(41) النكت: 85.
(42) سورة الرحمان، الآية: 22.
(43) النكت: 85.
(44) عبد القادر حسين، القرآن والصورة البيانية: 30.
(45) النكت:85
(46) الجرجاني، أسرار البلاغة: 32-33. تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة بيروت لبنان.
(47) النكت: 81.
(48) سورة الفرقان، الآية: 23.
(49) النكت: 86-87.
(50) سورة الحجر، الآية: 94.
(51) النكت : 87.
(52) سورة الأعراف، الآية: 154.
(53) أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 217-222. مكتبة النهضة مصر القاهرة الطبعة الثالثة، 1950م.
(54) الصورة الفنية: 274-275.
(55) النكت: 94.
(56) محمد أبو زهرة القرآن، المعجزة الكبرى: 290. دار الفكر العربي.
(57) سورة البقرة، الآية: 178.
(58) النكت: 72.
(59) البيان والتبيين: 1/67.
(60) النكت: 95-96.
(61) السكاكي، مفتاح العلوم: 416. تحقيق نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان. الطبعة الأولى 1403هـ/ 1983م.
(62) النكت: 96.
(63) النكت: 96.
(64) النكت: 94-95.
(65) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة: 99. دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1402هـ/1982م.
(66) أحمد أبو زيد، التناسب الفني في القرآن: 289 . منشورات كلية الآداب الرباط ، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. 1992م.
(67) النكت: 96.
(68) النكت: 98.
(69) السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن: 1/25. تحقيق أحمد شمس الدين،دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1408هـ/1988م.
(70) سورة القمر، الآية: 1-3.
(71) محمد حسين علي الصغير، الصوت اللغوي في القرآن: 145. دار المؤرخ العربي، بيروت لبنان، الطبعة الأولى. 1420هـ/2000م.
(72) معترك الأقران:1/25.
(73) محمد أبو زهرة، المعجزة الكبرى، القرآن: 95.
(74) النكت: 97.
(75) سورة الطور، الآية: 1-3.
(76) سورة الفاتحة، الآية: 2-3.
(77) النكت: 98.
(78) النكت: 99.
(79) التناسب البياني في القرآن: 369.
(80) سورة نوح، الآية: 5-10.
(81) التناسب البياني في القرآن: 354-355.
(82) النكت: 97.
(83) المثل السائر: 1/210.
(84) النقعاء: ماء أو موضع/ العشراء: عشيرة من فزارة. النكت:97
(85) النكت: 97.
(86) المثل السائر: 1/210.
(87) يحيى العلوي، الطراز: 3/21. دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1400هـ/ 1980م.
(88) سر الفصاحة: 173-174.
(89) النكت : 97.
(90) سورة الفجر، الآية : 1-12.
(91) سورة يس، الآية : 68.
(92) الصوت اللغوي في القرآن،: 147.
(93) النكت: 99.
(94) سورة الروم، الآية: 55.
(95) معترك الأقران في إعجاز القرآن: 1/303.
(96) سورة آل عمران، الآية: 53.
(97) النكت: 99.
(98) سورة البقرة،الآية: 193.
(99) النكت: 99.
(100) سورة التوبة، الآية: 128.
(101) النكت: 100.
(102) سورة البقرة، الآية: 193.
(103) شرح رسالة الرماني، لعالم مجهول: 113 . كأنه(عبد القاهر الجرجاني) تحقيق زكريا سعيد علي، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 1414هـ/1997م.
(104) سورة الشورى، الآية: 37.
(105) الفراء، معاني القرآن: 1/117.
(106) نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: 118. دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى. 1982م.
(107) سورة البقرة، الآية: 193.
(108) ديوان عمرو بن كلثوم: 78.
(109) النكت: 92.
(110) ابن منظور، لسان العرب، مادة (صرف): 11/91. دار صادر بيروت. 1374هـ/1955م.
(111) د. محمد سالم محسين، تصريف الأفعال والأسماء في ضوء أساليب القرآن: 15. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى. 1407هـ/1987م.
(112) ابن عصفور، الممتع في التصريف: 1/27 تحقيق فخر الدين قباوة، الدار العبية للكتاب، الطبعة الخامسة. 1403هـ/1983م
(113) النكت: 102.
(114) سورة آل عمران، الآية: 26.
(115) شرح رسالة الرماني:120.
(116) النكت: 101.
(117) النكت: 101.
(118)النكت: 101.
(119) النكت: 102.
(120) نسبهما عبد المشعال الصعيدي في كتابه بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة:4/139. للشافعي وليس في ديوانه ونسبهما ابن رجب في جامع العلوم والحكم:63 لأبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري، وقد ورد عنده الشطر الأول من البيت الأول بلفظ: (أربع من كلام خير البرية).
(121) صحيح البخاري، باب الحلال، كتاب البيوع: 3/69. صحيح مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة: 11/27.
(122) سنن ابن ماجة ،كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا: 2/1374.
(123) سنن ابن ماجة كاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة: 2/1316. موطأ الإمام مالك، كتاب حسن الخلق: 689.
(124) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي: 1/2. صحيح مسلم، كتاب الإمارة: 13/ 53.
(125) النكت: 102.
(126) سورة الفاتحة، الآية: 5-7.
(127) شرح رسالة الرماني في إعجاز القرآن: 133.
(128) ديوان أبي نواس: 116. ذات هن: ذات فرج /مقتبل: نضير /حيرية: منسوبة إلى الحيرة بالعراق / لألائها: بريقها.
(129) ديوان الأعشى: 148.
(130) النكت: 103-104.
(131) النكت: 103.
(132) النكت: 103.
(133) النكت: 103.
(134) النكت: 103.
(135) النكت: 80.
(136) النكت: 76.
(137) البحث البلاغي عند العرب: 42.
(138) البديع لابن المعتز: 65. المثل السائر لابن الأثير: 3/178.
(139) قدامة بن جعفر، نقد الشعر: 146. تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
(140) ديوان عنترة: 336.
(141) المثل السائر: 3/191.
(142) انظر مثلا: البلاغة في المثل السائر، حسن إسماعيل عبد الرزاق. دار الطباعة المحمدية القاهرة، الطبعة الأولى. 1407هـ/1987م. والبديع في ضوء أساليب القرآن، للدكتور عبد الفتاح لاشين. مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة. 1986م.
(143) النكت: 104.
(144) سورة طه، الآية: 80.
(145)النكت: 104.
(146) شرح رسالة الرماني: 134-135.
(147) النكت: 107.
(148) سورة طه، الآية: 80.
(149) النكت: 104.
(150) سورة الزمر، الآية: 59.
(151) النكت: 104.
(152) البغدادي، الفرق بين الفرق: 114-115. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة بيروت لبنان.
(153) سورة الفجر، الآية: 24.
(154) النكت: 104-105.
(155) الجويني، الشامل في أصول الدين: 548. مطبعة الإسكندرية. 1969م.
(156) سورة الأعراف، الآية: 39.
(157) النكت: 105.
(158) سورة سبأ، الآية: 24.
(159) سورة الأنعام، الآية: 28.
(160) سورة البقرة، الآية: 164.
(161) سورة ص، الآية: 1.
(162) النكت: 105-106.
(163) ابن منظور، لسان العرب، مادة( بين): 16/214. دار صادر بيروت. 1374هـ/1955م.
(164) البيان والتبيين: 1/75.
(165) البيان والتبيين: 1/76.
(166) النكت: 106.
(167) القزويني، الإيضاح: 326. تعليق وتنقيح محمد عبد المنعم خفاجي، منشورات دار الكتاب اللبناني، الطبعة السادسة. 1405هـ/1985م.
(168) النكت: 106.
(169) النكت: 106.
(170) النكت: 107.
(171) الحيوان: 3/131-132.
(172) البيان والتبيين: 2/8.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق