متحرك

السبت، 19 أبريل 2008

البيان بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي

بقلم الأستاذة: حفان مليكة
تمهيد:
قطعت الدراسات البلاغية رحلتها الطويلة، وانتهت إلى المتأخرين في القرن السادس الهجري، فقسموها إلى علوم ثلاثة: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع، استقل كل علم منها بجانب من جوانب التعبير، وقبل الحديث عن موضوع علم البيان يحسن بنا أولا الكشف عن معنى البلاغة.
1 - البلاغة في اللغة والاصطلاح:
أ – البلاغة في اللغة: معناها الوصول والانتهاء، يقال بلغت الغاية، أي انتهيت إليها، وبلغتها غيري. وبلغ الركب المدينة إذا انتهى إليها، وقد سميت البلاغة بلاغة، لأنها تنهي المعنى إلى قلب سامعه فيفهمه، ويقال بلغ الرجل بلاغة، إذا صار بليغا. ورجل بليغ حسن الكلام، يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. والبلاغة من صفة الكلام، لا من صفة المتكلم، وتسميتنا المتكلم أنه بليغ، فيه نوع من التوسع، وحقيقته أن كلامه بليغ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. إلا أن كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنه بليغ كالحقيقة.
ب – البلاغة في الاصطلاح:
البلاغة حسب علماء اللغة والبيان: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي أن الكلام البليغ، يجب أن يكون ملائما للمقام الذي يقال فيه، وللمخاطب به، فيناسب الكلام عقل المخاطب وطبقته ودرجة ثقافته، والبلاغة حسب الرماني هي "إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" ( النكت، ص: 75) وهو تعريف دقيق يكشف من جهة عن الأثر النفسي للبلاغة وقدرتها على إيصال المعنى إلى قلب السامع، وتمكينه في الذهن، ويكشف من جهة ثانية عن الوظيفة الفنية والبيانية للبلاغة وقدرتها على إبراز المعنى في رداء جميل وعرضه في صورة بديعة، أي أن البليغ لا بد له من التفكير في المعاني التي تموج في نفسه، فتكون صادقة قوية يتجلى فيها أثر الابتكار وسلامة الذوق في تنسيقها وحسن ترتيبها، فإذا تحقق له ذلك اختار لها من الألفاظ الواضحة المؤثرة ما يتلاءم وطبيعتها، ويعبر عنها أجمل تعبير.
2 - البيان في اللغة والاصطلاح:
أ‌- البيان لغة:
تدور مادة البيان في اللغة عامة، حول معنى الوضوح والانكشاف. فالبيان (ما يبين به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيء بيانا: اتضح. وبين الشيء ظهر. والتبين الإيضاح والوضوح. والبيان الفصاحة واللسن. وكلام بين فصيح. والبيان الإفصاح مع ذكاء. والبين من الرجال الفصيح. والبيان إظهار المقصود بأبلغ الألفاظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللسن وأصله الكشف والظهور) (ابن منظور، لسان العرب، مادة: بين). فمادة البيان تدور حول معنى الدلالة والفصاحة والوضوح والكشف والظهور.
ب‌- البيان بمعناه العام:
يبدو أن البيان لم يأخذ دلالته الاصطلاحية، ولم يكتسب صيغته النهائية، منذ عصر الجاحظ(تـ 255هـ) حتى عصر عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) فقد كان البياني يتقلب في وجوه القول كافة، ويواكب فنون البلاغة عامة، يختلط بالمعاني حينا، ويستوعب جملة من علم البيان حينا آخر.فالبيان لدى الجاحظ: "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجب، دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم السامع على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هي الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الأفهام، وأوضحت عن المعنى، ذلك هو البيان في ذلك الموضع" (البيان والتبيين الجاحظ 1/77) ثم إن أصناف الدلالة عند الجاحظ على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء:
1- اللفظ 2- الإشارة 3- العقد 4- الخط 5- الحال الدالة التي تسمى نصبة. وهكذا نرى أن المعنى اللغوي هو الذي سيطر على فكر الجاحظ واستبد بخياله، فالبيان عنده: هو الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي.
وينطوي أكثر من قرن على هذا الفهم للبيان، فيطل بالغي عظيم القدر، هو علي بن عيسى الرماني (ت 386هـ) فلا يزيد على البيان في دلالته شيئا، بل نجده لا يحذو حذو الجاحظ، في تعريف البيان فيقول: "البيان هو الإحضار لما يظهر به تميز الشيء من غيره في الإدراك، والبيان على أربعة أقسام: كلام وحال وإشارة وعلامة" ( النكت ص:106) فالرماني في هذا التعريف لا يقصد البيان بمعناه الاصطلاحي الذي تعارف عليه البلاغيون عليه في ما بعد باسم علم البيان، ثالث علوم البلاغة إلى جانب علم المعاني والبديع، وإنما كان يقصد المعنى العام المطلق لكلمة بيان، أي كل ما يظهر المعنى المقود ويوصله إلى الذهن سواء كان كلاما، أو رسما أو رمزا أو إشارة. ومما يدل على ما ذهبنا إليه أنه جعل هذا البيان قسما من أقسام البلاغة العشرة، وجعل التشبيه والاستعارة اللذين هما جزأين من علم البيان قسيمين معادلين له.
ثم يأتي القرن الخامس الهجري عصر النضج البلاغي، ولا نجد تحديدا اصطلاحيا للبيان، فنجدها مرادفة للكشف والظهور والوضوح عند إمام البلاغة ومؤسسها عبد القاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، و كلها تعني عنده "وصف الكلام بحسن الدِلالة وتمامها فيما له كانت دِلالة ثم بتبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس"(دلائل الإعجاز، ص:43).
ليس هناك أدنى ريب في أن عبد القاهر الجرجاني يعد مطور البحث البلاغي، فقد سبر أغوار هذا الفن شرحا وإيضاحا وتطبيقا، إلا أنه لم يشغل نفسه أبدا بالدخول في تحديدات بلاغية معقدة، أو في تقسيمات وتفريعات مضنية بل كان يؤثر الحديث عن القيمة الفنية لكل فن من فنون البلاغة، واستخلاص المعايير العامة من خلال التحليل الفني للنصوص والأمثلة. لهذا نجده ، إزاء علم البيان، يصرح باسمه، ويتحدث عن أهميته وقيمته ويصف فروعه وصفا دقيقا، لكنه في الوقت ذاته لم يهتم بتقديم تعريف اصطلاحي له، يقول:" ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا، من علم البيان. الذي لولاه لم تر لسانك يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدرر وينفث السحر" (دلائل الإعجاز ص:5-6) فورود تسمية علم البيان عند عبد القاهر الجرجاني لم يكن عبثا، لأن مما لاشك فيه أن عبد القاهر تعقب هذه التسمية بمسمياتها. وهذا العلم بتفريعاته، فتحدث بإسهاب عن الحقيقة والمجاز، وعن الاستعارة وأصنافها. وفصل القول في التشبيه والتمثيل والكناية والتعريف، وبين سر بلاغة هذه الفنون، ووقف مع كثير من أمثلتها، يستوحي سر جمالها، فهل ترى عبد القاهر الجرجاني في وضع هذه الأبواب، وبحث هذه الفصول، كان يقوم بعمل اعتباطي غير منظم، دون قصد إلى هذا الترتيب القويم لمفردات علم البيان، أم أنه كان يضع بذلك العمل، مقاييس هذا العلم، تاركا لمن يأتي بعده من العلماء، مهمة التحديد الاصطلاحي، والتقسيمات المطولة. والحدود المفرقة والمميزة لهذا العلم.
ج – البيان اصطلاحا:
ظلت مفاهيم البيان والبالغة والبراعة والفصاحة والبديع متشابكة لا تحديد فيها، ومختلطة لا تمييز بينها حتى القرن السادس الهجري حيث سيتم تقسيم علوم البلاغة على يد أبي يعقوب السكاكي (تـ 626هـ) فأطلق على الموضوعات المتعلقة بالنظم (علوم المعاني)، وعلى الموضوعات التي تبحث في الصورة البيانية (علوم البيان)، وألحق وجوه تحسين الكلام وتزيينه بهذين العلمين (مفتاح العلوم، ص:6 -8)
وقد استقر البلاغيون على تعريف السكاكي لعلم البيان بأنه: (إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه وبالنقصان، ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد به،( السكاكي مفتاح العلوم ص:224)
ويعيد علينا القزويني (ت739هـ) تعريف السكاكي لعلم البيان بقوله: "هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد، بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه" (الإيضاح ص: 212). من خلال هذين النصين نلاحظ أن كلمة بيان، بدأت عامة وشاملة تدور حول معنى الوضوح والبيان، ويبدو أن هذا المعنى اللغوي قد ارتبط بعلم البيان حتى بعد أن تحدد في شكل مصطلح بلاغي على يد السكاكي والقزوييني، فنرى أن مباحثه تدور في جملتها حول وضوح الدلالة وخفائها.
3- موقع البيان من البلاغة:
إن أساليب البيان، المتمثلة في التشبيه والاستعارة والكناية، كانت موضع اهتمام كثير من المبدعين والدارسين على السواء، حيث رأى فيها المبدعون من الشعراء وغيرهم ميدان تفردهم، ومجال تميزهم، واتخذ منها الدارسون مقياسا للحكم للشاعر أو عليه، وخاصة في باب الموازنة بين الشعراء.
إن احتفاء العلماء بعلم البيان، هو احتفاء بركن أساس من أركان البلاغة. فالبلاغة تعنى بتعليم الإنسان صناعة الكلام. وإذا كان الكلام صناعة، فعلم البيان أساس هذه الصناعة، لأنه المعني بصور الفن القولي، وتأدية المعاني في أساليب متعددة وطرائق مختلفة. أي أن المعنى الواحد قد يؤدى في صورة رائعة من صور التشبيه، أو الاستعارة أو المجاز، أو الكناية، لذلك رأينا من العلماء من يرى علم البيان الأساس في بلاغة العرب، إن لم نقل هو البلاغة بعينها.
وحسبنا أن ننظر إلى صورة المدح بالكرم، ونرى الصورة المختلفة التي عبر الشعراء من خلالها، فهذا يعبر عن كرم الممدوح بذكر ما له عليه من أفضال متخذا طريق المجاز المرسل في قوله:
مازالت تتبع ما تولي يدا بيد *** حتى ظننت حياتي من أياديكا
وذك يستخدم التشبيه فيقول:
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساجله
وثالث يستخدم الاستعارة فيقول:
قواصد كافور توارك غيره *** ومن قصد البحر استقل السواقيا
ورابع يستخدم الكناية فيقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم *** لا يسألون عن السواد المقبل
فنحن نرى أنه من المستساغ التعبير عن وصف إنسان بالكرم، بأساليب متعددة، كل له جماله وحسنه وبراعته. وهنا تكمن فائدة وأهمية علم البيان، فهو يعطي الشعراء القدرة على توليد المعاني والإبداع في صوغ الأساليب.

ليست هناك تعليقات:

أهداف منتدى الفصيح : توسيع دائرة التواصل بيننا وبين الباحثين، تقريب المعلومة من الطلبة على وجه الخصوص،وجعل المنتدى جسرا لمواقع وموسوعات علمية متنوعة، ونقل الخبر، عبر ربط المنتدى بأهم الجرائد والقنوات العالمية.
Google
دليل العرب الشامل الجزيرة نت سوالف المنتديات

أخبار الجزيرة