بقلم الكتورة:حفان مليكة
يمكن الرجوع إلى هذا البحث في مصدر نشره، بموقع الشهاب للإعلام، على الرابط:
تقديم:
إن البحث في قضية اللغة مهما كان منهجه ومرماه يحيلنا مباشرة إلى مشكل علاقة الإنسان باللغة في أصل اتصاله بها ثم في مدى انحصاره فيها. والتراث العربي في منطوقه ومضمونه قد زخر بتساؤلات مبدئية تمحورت حول ديمومة الإنسان باللغة منذ المبتدأ.
ولعل الناظر في تراث التفكير العربي يدرك بيسر أن رواده كانوا ينزلون الإنسان منزلة اللغة في لحظة التحديد ذاتها.فالحد المميز للغة لا يتخصص إلا بدخول عنصر الإنسان فيه. يقول ابن جني:«حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»([1]). كما أن حد الإنسان لا يتخصص إلا بدخول عنصر اللغة فيه كذلك.
فالمنهج التعريفي للغة عند علماء المسلمين يطوف بالإنسان بين عناصر الوجود مركزا أساسا على الحدث اللساني الذي يبوء الآدمي مركز الوجود في الكون، فكانت سببا في تكريمه واختياره من دون مخلوقات الله جميعا ليستخلفه في الأرض، قال تعالى] ولقد كرمنا بني آدم[([2]) وقال I ] وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة[([3]) وقد زوده باللغة ليطلع بمسؤوليات الخلافة فقال U ] وعلم آدم الأسماء كلها [ ([4]) .فاللغة هي وسيلة التخاطب والتفاهم بين البشر، فبها يعبر الإنسان عما يجول في ذهنه، وعما يخالج فكره، وبها ينقل أفكاره ومشاعره وآماله وآلامه وتجاربه للآخرين، وبمعنى آخر فإن اللغة توثق الصلة بين الناس وتقوي روابطهم وتبني ثقافتهم، فهي مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي وتراثها الذي يصل حاضرها بماضيها، وحاضرها بمستقبلها، ويحدد قسمات شخصيتها وملامح هويتها.
لذلك كان تعلم اللغة وكذا تعليمها من أولى الأوليات عند العرب والمسلمين، بل تعلمها واجب لا يتم الواجب إلا به. يقول ابن تيمية:« معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً »([5]) .
وبذلك كانت اللغة العربية منذ نشأة البحث فيها أداة أساسية من أدوات الدرس اللغوي والشرعي، فارتكزت عليها جهود العلماء من مفسرين وأصوليين وفقهاء وعلماء الكلام فضلا عن علماء اللغة وذلك «لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم، والإقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره، مما لا يعرف في غير علم العربية»([6]) وتزداد هذه العلاقة وضوحا عند حديث الإمام الشافعي في الرسالة -وهو بصدد الكلام- عن المنهج الذي اختطه ليكون دليلا لتأسيس فهم صحيح للنصوص حيث قال : «وإنما بدأت بما وضعت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معاينه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها»([7])
إن اعتناء علماء المسلمين باللغة، نابع من كون الشريعة التي هي موضوع النظر عربية، ثم إن اصطفاء العربية من لدن الله تعالى، لتكون لغة الوحي الإلهي، وإعجازه الأزلي، وخطابه إلى جميع البشر، كان حافزا لدى هؤلاء ودليلا لبحث ما تمتلكه اللغة العربية من طاقات هائلة، ومؤهلات مطلقة ( صوتية وصرفية ومعجمية ونحوية وبلاغية ودلالية...) لحمل أمانة الوحي الخاتم، وحي القرآن الكريم الذي هو آخر الرسالات السماوية إلى الناس كافة، فكان من جملة ما توصلت إليه هذه الدراسات، أن العربية حقا، تتميز بجملة من الخصائص التي تتفوق فيها على غيرها، وتكتسب بها ثراء لغويا، وتكتسي صفات جمالية تضفي عليها طابع الإعجاز، ومن أهمها الثراء في الأبنية. يقول السيوطي في المزهر «وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخون، قال ذكر الخليل في كتاب العين أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار، اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر 12305412.. ([8])
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي في مختصر كتاب العين «عدة مستعمل الكلام كله ومهمله، ستة آلاف ألف وستمائة ألف وتسعة وخمسون ألفا وأربعمائة 6659400. المستعمل منها، خمسة آلاف وستمائة وعشرون5620، والمهمل ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفا وسبعمائة وثمانون 6653780. عدة الصحيح منه، ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفا وأربعمائة 6653400 ». ([9]) وعدا وفرة المفردات فإن اللغة العربية تمتاز كذلك بالإيجاز، كما تمتاز باطراد قياس أبنيتها، و بتنوع أساليبها، وعذوبة منطقها، ووضوح مخارجها، واشتقاق كلماتها. ومن خواصها ومميزاتها أيضا، أنها تجمع من المفردات في مختلف أنواع الكلمة : اسمها، وفعلها، وحرفها. ومن المترادفات في الأسماء، والأفعال، والصفات، ما لم يجتمع مثله في لغة أخرى.ويروي بعض اللغويين أن للسيف في العربية ألف اسم على الأقل. ويقدر آخرون أن للداهية أربعمائة اسم، ولكل من المطر والريح والظلام والناقة والحجر والماء والبئر أسماء كثيرة، تبلغ عشرين في بعضها إلى ثلاثمائة في بعضها الآخر»([10]).
ولقد أجمل أحد الباحثين هذه الخصائص في قوله «وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمّة في الأسلوب والنحو، ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبيّ أقصر في جميع الحالات، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران - وهو عارف باللغتين العربية والسريانية - أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسناً، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً»([11]) .
من هنا ندرك بعض أسرار نزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وسبب تخصيص النبي r بمعجزة بلاغية بيانية وسبب اختصاص باقي الأنبياء والرسل بمعجزات مادية حسية، إن الصلة بين القرآن والعربية صلة قوية ومتينة، إنها صلة الروح بالجسد، وهل يعيش الجسد إذا فارقته الروح؟ فالعربية جزء لا ينفصل من حقيقة الإسلام نفسه. فبها يؤدي المسلم عبادته، وبواسطتها يتلو كتابه، وهي الوسيلة إلى فهم أسرار الذكر الحكيم وفهم دقائقه وتبليغه للناس أجمعين .
والقرآن الكريم هو حافظ العربية، وضامن خلودها وبقائها الدائم. والله تعالى قد بشرنا بحفظ هذه اللغة الكريمة، إذ تكفل بحفظ القرآن وصيانته فقالI ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[([12]) فبقيت محفوظة متوارثة حفظ الوحي الناطق بها. وهذا الحفظ الرباني للقرآن، هو ما يفسر بقاء العربية حية في النفوس، على الرغم من الوهن الذي أصاب أهلها، بينما اندثرت لغات كثيرة حين ضعفت قوة الناطقين بها، وتوارت ثقافاتهم بعيدا عن مراكز الريادة والصدارة. ودراستنا لهذا الموضوع تتناول الآتي:
1 - أهمية معرفة اللغة العربية لدارس كتاب الله تعالى والمتأمل فيه:
عني علماؤنا باللغة العربية عناية كبيرة، وحثوا على تعلمها واعتبروها مقوما أساسيا من مقومات العقيدة الإسلامية، وقد كان علماء المسلمين يعتبرون تعلم اللغة العربية فرضا واجبا، لأن فهم الكتاب فرض، ولا يفهم إلا بفهم العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول ابن تيمية " إن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به، ولم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، صارت معرفته من الدين، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين"([13]).
إن فهم معاني القرآن والوقوف على أسرار آياته، أمر ضروري بين يدي ترتيل القرآن الكريم وحفظه وتدبره، ولا يحصل ذلك إلا بتعلم العربية والإلمام بقواعدها، ويعتبر القرآن الكريم في أعلى درجات الفصاحة، وخير ممثل للغة المدونة لذلك وقف منه اللغويون موقفا موحدا، فاستشهدوا به وقبلوا كل ما جاء فيه، فلا يعرف أحد من اللغويين تعرض لشيء مما ثبت في المصحف بالنقد والتخطئة، يقول الراغب الأصفهاني: "ألفاظ القرآن الكريم هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء…وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء…وما عداها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة"([14])
والمراد بالقرآن، النص القرآني المدون في المصحف وهو غير القراءات، يقول الزركشي: "القرآن والقراءات القرآنية حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمدr للبيان والإعجاز. والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرها..." ([15]). ويقول الآمدي: "أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه، هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا"([16]).
ولعل مصدر إجماع اللغويين حول هذا النص (القرآن) يرجع إلى ما أحيط به القرآن الكريم منذ بداية نزوله، من عناية شديدة منقطعة النظير، من قبل الصحابة، حيث تجردوا لحفظه وإتقانه، فتلقوه عن النبي r حرفا حرفا لم يهملوا منه حركة ولا سكونا ولا إثباتا ولا حذفا، ولا دخل عليهم فيه شيء منه شك ولا وهم. ولقد تلقاه أصحاب رسول الله r منه على تلك الرعاية والأمانة حتى كان يستمع إليهم وهم يقرؤون عليه، فعن ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله اقرأ علي: ففتحت سورة النساء فلما بلغت ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا﴾([17]). رأيت عينيه تذرفان من الدمع فقال ( حسبك الآن)" وما روي من قول النبي r حيث قال ÿ من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم معبدÿ وذلك حين قام ابن مسعود يصلي والنبي r يسمع قراءته. وكل هذه النصوص تدل دلالة قاطعة على الدرجة الكبيرة في توثيق النص القرآني، وهو ما يدل عليه كذلك ما رواه عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي r قال: ÿلا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليحهÿ. فالرسول r مبالغة منه في شدة الحفاظ على النص القرآني رأى ألا يكتب شيء عنه من كلامه حتى لا يختلط الأمر فيما بعد على المسلمين بين السنة والقرآن.
لذلك كان القرآن النص العربي الصحيح المتواتر المجمع على تلاوته بالطرق التي وصل إلينا بها في الأداء والحركات والسكنات. "فلم يتوفر لنص ما توفر للقرآن الكريم من تواتر رواياته وعناية العلماء بضبطها وتحريرها متنا وسندا "([18]) بل لم تعرف البشرية كتابا أحيط بالعناية واكتنف بالرعاية فحوفظ على تركيبه وكلماته وحروفه وحركاته، وكيفية ترتيله بلهجاته مع إتقان متنها في التلقن والتلقين، ودقة بالغة في الأخذ والأداء - مثل الكتاب العزيز- ولهذا كان القرآن الكريم الوارد علينا عن طريق الصحابة والقراء التابعين وهم جميعا ممن يحتج بكلامهم العادي فضلا عن قراءاتهم التي تحروا ضبطها، حجة في اللغة.
2 - أهمية معرفة النحو في فهم القرآن الكريم:
أجمع الأئمة من السلف والخلف على اعتبار النحو شرطا من شروط المجتهدين في الفقه، فبه نعرف المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره. يقول الزجاجي في كتابه الإيضاح في علل النحو" فإن قيل فما الفائدة في تعلم النحو؟..فالجواب في ذلك أن يقال له: الفائدة فيه للوصول إلى التكلم بكلام العرب على الحقيقة صوابا غير مبدل ولا مغير، وتقويم كتاب الله U الذي هو أصل الدين والدنيا والمعتمد، ومعرفة أخبار النبي r، وإقامة معانيها على الحقيقة، لأنه لا تفهم معانيها على صحة، إلا بتوفيتها حقوقها من الإعراب"([19]) .
يتضح من كلام الزجاجي، أن تعلم الضبط الإعرابي وقواعد النحو، أمر ضروري لفهم القرآن الكريم، وسنة النبي الكريم، فإذا فسد الضبط فسد المعنى، وهو ما نبينه بالأمثلة الآتية:
يقول تعالى ]أن الله بريء من المشركين ورسولُه[([20]) فلو قرئت (ورسوله) بكسر اللام أي بعطف رسوله على (المشركين) فسد المعنى تماما، فيكون المعنى الفاسد: (أن الله بريء من المشركين وبريء من رسوله كذلك)، وسبب ذلك هو الضبط غير الصحيح، أما الضبط الصحيح، فهو أن نقول ورسولُه بضم اللام، بعطف المرفوع على الابتداء. فيكون المعنى الصحيح (أن الله بريء من المشركين ورسوله بريء من المشركين كذلك).
ويقول تعالى في سورة البقرة: ] وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ[ ([21])فلو قرئت (ويعقوبَ) بفتح الباء على النصب بالعطف على (بنيه)، فسد المعنى تماما، إذ كيف يوصي إبراهيم يعقوب وهو لم يولد بعد. فالضبط الصحيح برفع (يعقوب) على الابتداء المستأنف، ويكون المعنى الصحيح (ويعقوب وصى بها بنيه كذلك).
ويقول تعالى في سورة فاطر: ] إنما يخشى الله من عباده العلماء [([22]) فلو قرئت (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ) أي برفع لفظ الجلالة، ونصب العلماء، فسد المعنى تماما، وأدى إلى خلل في العقيدة، إذ كيف يخشى الله القوي العزيز الجبار عباده الضعاف؟ فالضبط الصحيح، نصب لفظ الجلالة بالفتح على أنه مفعول به مقدم، ورفع العلماء بالضم على أنه فاعل مؤخر، ويكون المعنى الصحيح أن أشد العباد خشية لله تعالى هم العلماء العالمون حقا.
وفي سورة النساء يقول تعالى: ]وكلم الله موسى تكليما[ ([23])فلو قرئت الآية «وكلم اللهَ موسى تكليما » بنصب لفظ الجلالة على أنه مفعول به مقدم، وموسى فاعل مؤخر، لفسد المعنى، ونفي الكلام عن الله تعالى، مما تقول به فرقة المعتزلة، فهم ينكرون أن يكون الله كلم موسى u، أو كلم أحدا من خلقه، ولكن الضبط الصحيح هو رفع لفظ الجلالة، وإثبات صفة الكلام لله تعالى، وهو مذهب أهل السنة. وقد علق الإمام ابن كثير على هذه الآية بقوله: «وهذا تشريف لموسى u بهذه الصفة، ولهذا يقال له الكليم »([24]).
إن أهم ملاحظة يمكن الإشارة إليها من خلال هذه الأمثلة: ذلك الارتباط الوثيق بين نزول القرآن الكريم بالعربية وبين العلوم اللغوية المنبثقة عنها ( نحوا ومعجما وصرفا وبلاغة وفقه لغة ..) إذ شكل ذلك عاملا مهما في ارتباط العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية، فنشأت مترابطة متداخلة يصعب الإحاطة بواحدة منها دون الأخرى، وذلك لكون القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مدار التكليف واردان باللغة العربية، ومن ثم وجبت معرفة أساليبهما والوقوف على مقصودهما في الجمل والعبارات لاستنباط حكم صحيح، يقول ابن السراج موضحا هذا الكلام «فإن الواجب على كل من عرف أنه مخاطب بالتنزيل، ومأمور بفهم كلام الرسول، غير معذور في الجهل بمعناهما، ولا مسامح في ترك العمل بمقتضاهما، أن يتقدم فيتعلم اللسان الذي أنزل الله به القرآن، حتى يفهم كلام الله وحديث رسول الله r، إذ لا سبيل لفهمهما دون معرفة الإعراب، وتمييز الخطأ من الصواب، لأن الإعراب إنما وضع للفرق بين المعاني … فلو ذهب الإعراب لاختلطت المعاني، ولم يتميز بعضها من بعض، وتعذر على المخاطب فهم ما أريد منه، فوجب لذلك فهم هذا العلم إذ هو من أوكد أسباب الفهم، فأعرف ذلك ولا تجد غنى عنه»([25])
ويقول سيد قطب وهو بصدد النظر في عربية القرآن «وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة (الإسلام) حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره»([26])، ومصداق قوله تعالى ]الله أعلم حيث يجعل رسالته[ ([27]).
فإذا حق لنا أن نقول إن القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، مصداقا لقوله تعالى: ]وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه[([28])فإن لغة التنزيل التي هي جزء منه قد اكتسبت خصائص الهيمنة نفسها، بالنسبة لسائر اللغات وأوعية التفكير ووسائل التعبير والتغيير والتواصل يقول تعالى: ]نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ ([29])وقوله تعالى:]قرآنا عربيا غير ذي عوج [([30])وقوله تعالى: ]إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون[([31])وقوله تعالى]كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعقلون[ ([32]).
إن هذه الحروف الأبجدية تلفت النظر العقلي إلى أن آي القرآن مصوغ من هذه الحروف التي يستعملها العرب في معهودهم للخطاب، وما لهذا الإختيار من أبعاد ودلالات، تدل على وجود الإمكانية والقدرة للقيام بالمهمة، وحمل الأمانة، وأداء البيان على طول خطي الزمان والمكان، مع كل ما يتطلبه ذلك من عناصر للصمود والتحدي، مصداقا لقوله تعالى:]الرحمان علم القران خلق الإنسان علمه البيان[ ([33]). ولذلك اعتبرت اللغة العربية، المقوم الأساس في بناء الأمة وقيامها، لأنها لغة التواصل والاتصال والصياغة لكل الأفكار «وليس ذلك فحسب، وإنما هي المدخل الأخطر لبعثرة الأمة، والعبث بتراثها وتاريخها وذاكرتها، وعزلها عن تجاربها وماضيها وقيمها وشخصيتها الحضارية، ومحاولة تشكيلها من جديد في إطار معطيات لغة أخرى … لذلك كان عزل اللغة والتهوين من شأنها، من أخطر مداخل الغزو الفكري والارتهان الثقافي»([34]).
إن الصلة بين ما هو لغوي وما هو شرعي، لا يخلو منه مؤلف من مؤلفات القدماء إلا وينبه إليه. يقول الثعالبي: «والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش … ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها وتصاريفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الإيمان، لكفى بها فضلا يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره»([35]).
وهكذا كانت اللغة العربية إذن منذ نشأة البحث فيها، أداة أساسية من أدوات الدرس اللغوي والشرعي، فارتكزت عليها جهود علماء المسلمين كالمفسرين والأصوليين والفقهاء وعلماء الكلام فضلا عن علماء اللغة([36])وذلك «لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاها لغة، من جهة الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والحذف والإضمار، والمنطوق والمفهوم، والإقتضاء والإشارةن والتنبيه والإيماء وغيره، مما لا يعرف في غير علم العربية»([37]). وتزداد هذه العلاقة وضوحا عند حديث الإمام الشافعي في الرسالة، وهو بصدد الكلام عن المنهج الذي اختطه ليكون دليلا لتأسيس فهم صحيح للنصوص حيث قال : «وإنما بدأت بما وضعت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معاينه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها»([38])
يظهر من خلال الرسالة أن الإمام الشافعي كان يربط بين عملية فهم القرآن ومعرفة اللغة العربية، وهو ربط يرجع بالأساس إلى أن الدليل السمعي الذي يجب فهمه، يتقدم إلى المتلقي عبر اللغة العربية، ولم يكن الشافعي الوحيد الذي أكد على هذا الربط كشرط في فهم النصوص، فهذا الجاحظ يقول: «فللعرب أمثال واشتقاقات وابنية وموضع كلام، يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر، ولها حينئذ دلالات أخر، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك»([39]).
3- أهمية معرفة أوجه اللغة وخصائص لهجاتها:
إن معرفة معاني القرآن وأسراره، نابع من معرفة دقائقها وليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كتاب الله، فقد يكون اللفظ –مثلا- مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر. ولهذا السبب يقول ابن تيمية« لا بُدّ في تفسير القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلّ على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يُفهَم كلامُه، فمعرفة العربية التي خُوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإنّ عامّة ضلال أهم البدع كان بهذا السبب، فإنّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدّعون أنّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك» "([40]) يقول الله I ] ووجدك ضالا فهدى[([41]) فإن لفظة الضلال، تقع على معان كثيرة، فتوقع بعضهم، أنه أراد به الضلال الذي هو ضد الهدى، وزعموا أن الرسول rكان على مذاهب قومه أربعين سنة. وهذا خطأ فاحش، فقد طهره الله تعالى لنبوته، وارتضاه لرسالته، ومن سيرته رد على مزاعمهم، إذ سمي في الجاهلية الأمين، وكانوا يرضونه حكما لهم وعليهم، والله I إنما أراد بالضلال الذي هو الغفلة، كما قال في مواضع أخر] ولا يضل ربي ولا ينسى[([42]) أي لا يغفل عما يقولون علوا كبيرا ([43]) .
وقوله I ]أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا[ ([44])فإن لفظ (ييأس) في الآية لا تعني القنوط، وانقطاع الرجاء، كما جاء في قوله تعالى في سورة يوسف ] إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون[([45]) فإن لفظ(أفلم ييأس) في سورة الرعد، كما يقول ابن عباس t بمعنى (أفلم يعلم) والدليل على ذلك قول مالك بن عوف:
لقد يئس الأقوام أني أنا ابنه وان كنت عن أرض العشيرة نائيا([46])
فالله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين وقد كان الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم يحتجون على غريب القران ومشكله بالشعر لان الله تعالى قد قال]إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [([47])وقال ] كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون [([48]) وقد كان ابن عباس t يقول الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه"([49]) الإتقان 2/55.
4- أهمية معرفة علم البلاغة وأساليبها:
إذا كان قارئ القرآن لا يستطيع فهمه والوقوف على أسراره إلا إذا ألم بقواعد النحو وبأوجه اللغة وحقائقها، فإنه كذلك لا يستطيع معرفة إعجازه من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب، إلا عن طريق معرفة علم البلاغة، لذلك اعتبرها أبو هلال العسكري (ت395هـ)أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالحفظ بعد المعرفة بالله جل ثناؤه إذ بها يعرف إعجاز كتاب الله تعالى الناطق بالحق الهادي إلى سبيل الرشد فيقول:
«وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع والاختصار اللطيف، وضمنه الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة مع سهولة علمه، وجزالتها وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيرت عقولهم فيها. وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايتهم في حسنه وبراعته وسلاسته ونصاعته وكمال معانيه وصفاء ألفاظه»([50]) .
وتتضح أهمية هذا النوع من النظم في الأسلوب القرآني فيما يتضمنه من حكم بالغة لأن "كل تقديم وتأخير فيه حكمة بالغة وقدرة فائقة، ليس فيه ما يفسد المعنى، وإنما فيه الواضح الجلي البليغ، وليس هناك ما يقوم مقامه، فكأن المعنى يقتضي ما تقدم أو تأخر، اقتضاء طبيعيا بما يؤثر في المتلقي تأثيرا واضحا"([51]). وقد ضرب عبد القاهر الجرجاني مثالا لإعجاز القرآن فيما اشتمل عليه من تقديم وتأخير بقوله تعالى، ﴿وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم﴾([52]). يعلق عبد القاهر على هذه الآية بقوله "ليس بخاف أن لتقديم (الشركاء) حسنا وروعة ومأخذا من القلوب، أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخرت فقلت (وجعلوا الجن شركاء لله) وإنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر، إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل"([53]). فمعنى حصول الشرك وعبادة الجن مع الله تعالى وإن كان يتحقق في تقديم (الشركاء) أو تأخيره، فإن تقديمه يفيد هذا المعنى، ويفيد معه معنى أخر وهو "أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك، لا من الجن ولا غير الجن"([54]). أما إذا أخر(الشركاء) فقيل: (جعلوا الجن شركاء لله) لم يفد ذلك، ولم يكن فيه "شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره، وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه"([55]).
ومن روائع الإعجاز القرآني في تركيب الجملة القرآنية الاستعارة، وهي أيضا من مقتضيات النظم القرآني، إذ لا يتصور "أن يكون هاهنا (فعل) أو (اسم) قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره"([56]). والاستعارة لون من ألوان التصوير البلاغي في القرآن، فهي تكشف عن أصالة ما يريد القرآن التعبير عنه بصورة إيحائية لا يحس بها السامع في الاستعمال الحقيقي، وتمنح آياته جمالا وجودة وبلاغة، وتكشف عن أسرار جمالية متناهية. وقد بلغت الاستعارة في القرآن مرتبة الإعجاز كما في قوله تعالى ﴿قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا﴾([57]). فهذه الآية لها من الروعة والجمال لم نكن لنجدها لو جاء الكلام صريحا فقيل (اشتعل شيب الرأس) أو(الشيب في الرأس). فكلمة (اشتعل) في الآية، لم تقف عند معنى (انتشر) الشيب في الرأس فحسب، ولكنها تحمل معنى دبيب الشيب في الرأس ببطء وثبات حتى استغرقه وعم جملته، فلم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به، وذلك كما تدب النار في الفحم مبطئة ولكن في دأب واستمرار، مثال ذلك أنك تقول "(اشتعل البيت نارا)، فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول (اشتعلت النار في البيت) فلا يفيد ذلك بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، وإصابتها جانبا منه. وأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة"([58]).
فالألفاظ المستعارة في القرآن ألفاظ موحية، لأنها أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين، وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوي ملموسا محسوسا، "فقد يجسم القرآن المعنى ويهب للجماد العقل والحياة زيادة في تصوير المعنى وتمثيله في النفس"([59]).
ومثله أيضا قوله تعالى ﴿فاصدع بما تومر﴾([60]) ففي الآية من بلاغة التعبير ودقة المعنى والتفنن في التصوير، ما لا نجده في الاستعمال الحقيقي، فلو قلنا(بلغ ما تومر به) لوجدنا فعل (بلغ)، يضيق عن الإحاطة بالمراد من الآية "لأن الصدع بالأمر لابد له من تأثير كتأثير صدع الزجاج، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير فيصير بمنزلة ما لم يقع. والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ"([61]).
فالاستعارة في الآية هي التي كشفت أصالة ما يريد القرآن التعبير عنه، وكشفت عن إيحائية جديدة في الآية، لا يحس بها السامع في الاستعمال الحقيقي، بحيث يصبح لفظ الاستعارة متميزا لا يسد مسده لفظ آخر، ولا يشاكله تعبير مقارب، وبذلك بلغت الاستعارة في القرآن الكريم مرتبة الإعجاز. ويبدو من هذه الأمثلة التي تقدم بها الرماني، أن بلاغة الاستعارة القرآنية وإعجازها يكمن في قدرتها على تسجيم المعنوي، وتقديمه في صورة حسية ينفعل معه قلب وعقل القارئ والسامع. يقول الدكتور أحمد بدوي متحدثا عن تأثير الاستعارة القرآنية "وإذا أنت مضيت إلى الألفاظ المستعارة رأيتها من هذا النوع الموحي لأنها أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوي ملموسا محسا...فقد يجسم القرآن المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس، وذلك بعض ما يعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية، ومن أروع هذا التجسيم، قوله سبحانه وتعالى ﴿ولما سكت عن موسى الغضب﴾([62])، ألا تحس بالغضب هنا كأنه إنسان يدفع موسى ويحثه على الانفعال والثورة، ثم سكت وكف عن دفع موسى وتحريضه"([63]). ويبدو أن الرماني قد استغل ثقافته الفلسفية الواسعة في تحليلاته للاستعارة القرآنية، فنجده يكثر من ضرب الأمثلة وبيان موضع الاستعارة وأصلها وحقيقتها، ثم يشرح السر في أبلغية الاستعارة على الحقيقة، وقدرتها على التأثير في من يتلقى النص القرآني .
إن ما ذكرناه من مظاهر إعجاز القرآن في تركيب الجملة القرآنية، ما هو إلا غيض من فيض، فهناك مظاهر بلاغية عديدة لا يتسع المجال لذكرها، كالذكر والحذف والتنكير والتعريف والتشبيه والكناية والإيجاز والإطناب والحقيقة والمجاز. فبلاغة القرآن الكريم وإعجازه بحر لا حدود له، وسيبقى المعجزة التي تقصر دونها مواهب المتكلمين وقدرات البشر أجمعين.
إن المنهج اللغوي الذي ذكرنا بعض ملامحه عند علماء المسلمين، يعتبر خلاصة تجربة عميقة ظلت خلالها أجيال الباحثين المخلصين ينقبون للتعرف على مقاصد الكلام وفضله وأبعاده، وهم يدركون أن البحث في أسرار اللسان العربي، هو بحث في السليقة اللغوية لهذه الأمة وهو في جوهره «دراسة لأسرار الإنسان، وتعرفا على أخفى وأغمض ما يختلج في بواطنه من حس وشعور، وأن العناية بالأحوال والكيفيات والتراكيب ليست إلا بحثا في أسرار القلوب والعقول الماثلة في أسرار الكيفيات والتراكيب، وأن المعنى الخفي الغامض والمستكن وراء هذا الحال من أحوال اللفظ العربي، إنما هو تلك الاختلاجة الخفية والغامضة في باطن النفس التي أبدعت هذا التركيب»([64]) خصوصا وقد أكدت الدراسات المتقدمة جدا من الناحية اللسانية والتربوية أن " السنوات الأولى من حياة المواليد، لابد أن تتمركز حول اللغة الأم، لأنه من خلال ألفاظها وأصواتها تتشكل الذهنية، وتبنى المرجعية، ويتحقق التواصل، وتكون الحصانة، ويضمن سلامة السلم الصوتي، وقد أوصى بعض العلماء بضرورة العكوف على اللغة الأم إلى اثني عشر عاما، ثم يكون بعد ذلك تعلم اللغات الأخرى، لأن اللغة هي الوطن الحقيقي الذي يشكل الهوية والخصوصية، ويمنح الرؤية للحياة وفلسفة التعامل معها وهي جماع الشخصية"([65]).
الهوامش:
([1]) ابن جني، الخصائص 1/33.
([2]) سورة الإسراء، الآية:70.
([3]) سورة البقرة،الآية: 30.
([4]) سورة البقرة،الآية: 31.
([5]) ابن تيمية، الفتاوى 32/ 252.
([6]) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 1/9.
([7]) الشافعي، الرسالة، ص: 50 .
([8]) السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/ 74
([9]) المصدر نفسه، 1/75
([10]) انظر على سبيل المثال الكتب الآتية: المزهر، 1/409 وما بعدها، وانظر كذلك القاموس المحيط للفيروزبادي، وكذا أمالي الزجاج، ص:102.
([11]) أنور الجندي، الفصحى لغة القرآن، ص: 306.
([12])سورة الحجر الآية:9.
([13]) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص:162.
([14]) الشلقاني ، رواية اللغة، ص:37.
([15]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1/318
([16]) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 1/228.
([17]) سورة النساء، الآية: 41.
([18]) سعيد الأفغاني، في أصول النحو، ص25.
([19]) الإيضاح في علل النحو للزجاجي، ص:95.
([20]) سورة التوبة، الآية:3
([21]) سورة البقرة، الآية 131.
([22]) سورة فاطر، الآية:28.
([23]) سورة النساء، الآية 163.
([24]) ابن كثير، تفسير ابن كثير 1/302
([25]) ابن السراج (المعروف بالشنتمري) تلقيح الألباب على فضائل الإعراب (مخطوط في النحو ضمن خزانتي الخاصة، ورقة 1).
([26])السيد قطب ، في ظلال القرآن : 5/3144 دار الشروق القاهرة الطبعة العاشرة 1401 هـ ، 1981 م
([27])الأنعام، الآية: 124.
([28])سورة المائدة، الآية 48 .
([29])سورة الشعراء، 193-195.
([30])سورة الزمر،الآية:28 .
([31])سورة الزخرف: الآية:3 .
([32])سورة فصلت: الآية: 3
([33])سورة الرحمان: 1-4.
([34]) طالب عبد الرحمان نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص: 22 كتاب الأمة السنة 1420هـ
([35]) الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية ص 4 طبعة 1993دار الكتاب العربي
([36])إن التفكير اللغوي لا يوجد مستقلا بذاته بل هو موزع ومقسم بين الدراسات العربية المختلفة ، ومتداخل مع كثير منها مما يجعل من الصعب عزله ودراسته ( محمد الدنياجي التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني ص: 22.
([37])الآمدي الأحكام في أصول الأحكام 1/9.
([38])الشافعي الرسالة ص:51. تحقيق أحمد شاكر مكتبة التراث القاهرة مصر.
([39])عبد الوهاب أبو سليمان الفكر الأصولي ص: 24.
([40])ابن تيمية، الإيمان ص: 111
([41])سورة الضحى، الآية:7
([42])سورة طه، الآية: 52.
([43]) ابن السيد البطليوسي (الإنصاف فيما وقع بين المسلمين من الاختلاف، ص: 72.
([44])سورة الرعد، الآية:32.
([45])سورة يوسف الآية87.
([46])السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2/58
([47])سورة الزخرف، الآية 2.
([48])سورة فصلت، الآية: 2.
([49]) الإتقان في علوم القرآن: 2/55.
([50])أبو هلال العسكري، الصناعتين،: 9-10.
([51]) محمد كريم الكواز، الأسلوب في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم: 309.
([52]) الأنعام، الآية: 101.
([53]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: 286.
([54]) المصدر نفسه: 286.
([55]) المصدر نفسه: 287.
([56])المصدر نفسه: 393.
([57]) سورة مريم، الآية: 3.
([58]) دلائل الإعجاز: 101.
([59])أحمد بدوي، بلاغة القرآن، ص: 217.
([60]) سورة الحجر، الآية: 94.
([61]) الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ص : 87.
([62]) سورة الأعراف، الآية: 154.
([63])بلاغة القرآن: 217-222.
([64])محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: ص 25، دار التضامن مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1408هـ – 1978م).
([65]) طالب عبد الرحمان، نحو تقويم جديد للكتابة العربية، ص: 22. مجلة الأمة العدد 69، السنة التاسعة عشر سنة 1420هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق